ذَلِك خوف عُقُوبَة الْحُكَّام فِي الدُّنْيَا يردعه خوف عَذَاب الله فِي الْآخِرَة إِن كَانَ مُؤمنا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
فَتبين بِهَذَا أَن للاشتراع الْمدنِي والجنائي والسياسي والعسكري دَلَائِل كَثِيرَة، مِنْهَا قَوَاعِد الضرورات وَنفي الْحَرج وَمنع الضَّرَر والضرار، فَلَو لم ينص فِي الْقُرْآن على أَن أُمُور الْمُؤمنِينَ الْعَامَّة شُورَى بَينهم، وَلَو لم يُوجب طَاعَة أولي الْأَمر بالتبع لطاعة الله وَطَاعَة الرَّسُول، وَلَو لم يفْرض على الْأمة رد هَذِه الْأُمُور إِلَيْهِم ويفوض إِلَيْهِم أَمر استنباط أَحْكَامهَا، وَلَو لم يقر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] معَاذًا على الِاجْتِهَاد والرأي فِيمَا يعرض عَلَيْهِ من القضايا الَّتِي لَا نَص عَلَيْهَا فِي كتاب الله وَلم تمض فِيهَا سنة من رَسُوله لَو لم يرد هَذَا كُله وَمَا فِي مَعْنَاهُ لكفت الضَّرُورَة أصلا شَرْعِيًّا للاستنباط الَّذِي يُسمى فِي عرف هَذَا الْعَصْر بالتشريع. ووراء هَذَا وَذَاكَ عمل الْأمة فِي صدر الْإِسْلَام، وَخير الْقُرُون، وَكَذَا مَا بعْدهَا من الْقُرُون الْوُسْطَى الَّتِي خرجت فِيهَا الْخلَافَة الكافلة للأمور الْعَامَّة عَن مَنْهَج الْعلم الاستقلالي فزالا مَعًا لتلازمهما.
الْخلَافَة منَاط الْوحدَة، ومصدر الاشتراع، وسلك النظام، وكفالة تَنْفِيذ الْأَحْكَام، وأركانها أهل الْحل وَالْعقد رجال الشورى، وَرَئِيسهمْ الإِمَام الْأَعْظَم، وَيشْتَرط فيهم كلهم أَن يَكُونُوا أَهلا للاشتراع، الْمعبر عَنهُ فِي أصولنا بِالِاجْتِهَادِ والاستنباط، وَقد كَانَ أول فَسَاد طَرَأَ على نظام الْخلَافَة وصدع فِي أَرْكَانهَا جعلهَا وراثية فِي أهل الغلب والعصبية، وَأول تَقْصِير رزئ بِهِ الْمُسلمُونَ عدم وضع نظام يَنْضَبِط بِهِ قِيَامهَا بِمَا يجب من أَمر الْأمة على الْقَوَاعِد الَّتِي هدى إِلَيْهَا الْكتاب وَالسّنة، وَأول خلل نَشأ عَن هَذَا وَذَاكَ تفلت الْخُلَفَاء من سيطرة أهل الْحل وَالْعقد الَّذِي يمثلون الْأمة، واعتمادهم على أهل عصبية الْقُوَّة، الَّتِي كَانَ من أهم إصْلَاح الْإِسْلَام لأمور الْبشر إِزَالَتهَا، فَصَارَ صَلَاح الْأمة وفسادها تَابعا بذلك لصلاح الْخَلِيفَة وأعوانه أهل عصبيته، لَا لممثلي الْأمة وَمحل ثقتها من أهل الْعلم والرأي فِيهَا، والغيرة والحدب عَلَيْهَا.