الْأمة، واجتهاد الْأَئِمَّة، فَكل هذامما يُسمى فِي عرف علم الْحُقُوق والقانون تشريعا، وَهُوَ ميدان الْمُجْتَهدين الْوَاسِع وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل فِي خير الْقُرُون ...
فَثَبت بِهَذَا أَن لِلْإِسْلَامِ اشتراعا مَأْذُونا بِهِ من الله تَعَالَى، وَأَنه مفوض إِلَى الْأمة يقره أهل الْعلم والرأي والزعامة فِيهَا بالشورى بَينهم. . وَأَن السلطة فِي الْحَقِيقَة للْأمة، فَإِذا أمكن استفتاؤها فِي أَمر وأجمعت عَلَيْهِ فَلَا مندوحة عَنهُ. . وَلَيْسَ للخليفة - دع من دونه من الْحُكَّام - أَن ينْقض إجماعها، وَلَا أَن يُخَالِفهُ وَلَا أَن يُخَالف نوابها وممثليها من أهل الْحل وَالْعقد أَيْضا. . واتفاق هَؤُلَاءِ إِذا كَانُوا مَحْصُورين يُسمى إِجْمَاعًا عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول، بِشَرْط أَن يَكُونُوا من أهل الْعلم الاجتهادي.
وَأما إذااختلفوا فَالْوَاجِب رد مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الْأَصْلَيْنِ الأساسيين وهما الْكتاب وَالسّنة، وَالْعَمَل بِمَا يُؤَيّدهُ الدَّلِيل مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا، لقَوْله تَعَالَى بعد الْأَمر بِطَاعَة الله وَطَاعَة الرَّسُول وأولي الْأَمر: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} أَي أحسن عَاقِبَة ومآلا مِمَّا عداهُ، وَمِنْه الْعَمَل بِرَأْي أَكثر نواب الْأمة فِي تشريع قوانين أوربة ومقلديها فشرعنا مُخَالف لَهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَمن وُجُوه كَونه خيرا من غَيره، وَأحسن عَاقِبَة أَن النزاع بَين الْأمة يَزُول بتحكيم الْكتاب وَالسّنة فِيهِ، وتطيب نفوس جَمِيع نواب الْأمة بِمَا يظْهر رجحانه بِالدَّلِيلِ، وَلَا يبْقى للأضغان والنزاع بَينهم مجَال. . وَقد تقدم إِثْبَات سلطة الْأمة وتمثيل أهل الْحل وَالْعقد لَهَا فِي أول هَذِه المباحث (رقم 3، 4) بِقدر الْحَاجة الْعَارِضَة. . وَأما تَفْصِيل القَوْل فِي هَذَا وَذَاكَ فيراجع فِيهِ تفسي: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فِي الْجُزْء الْخَامِس من تَفْسِير الْمنَار. .
الاشتراع - أَو التشريع أَو الاستنباط - ضَرُورَة من ضرورات الِاجْتِمَاع البشري، وَمن قَوَاعِد الشَّرْع الإسلامي أَن الضَّرُورَة لَهَا أَحْكَام: مِنْهَا أَنَّهَا تبيح مَا حرمه الله تعلى بِإِذْنِهِ فِي قَوْله بعد بَيَان مُحرمَات الطَّعَام: {إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ} وَمِنْهَا نفي الْحَرج والعسر من الدّين، وانتفاؤهما من قسم الْمُعَامَلَات أولى من انتفائهما من قسم الْعِبَادَات الَّتِي يعقل أَن يكون فِيهَا ضرب من الْمَشَقَّة لتربية النَّفس وتزكيتها إِذْ لَا تكمل تربية بِدُونِ احْتِمَال مشقة وَجهد. . ويسهل هَذَا الِاحْتِمَال نِيَّة الْقرْبَة وابتغاء المثوبة فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْمُعَامَلَات شَيْء من معنى التدين إِلَّا مَا ذكرنَا آنِفا، وَالْغَرَض مِنْهُ حفظ الْأَنْفس وَالْأَمْوَال والأعراض أَن يعتدى عَلَيْهَا بِغَيْر حق، فَمن لم يردعه عَن