ثمَّ ترَتّب على ذَلِك شُعُور الْخُلَفَاء بالاستغناء عَن الْعلم أَو عدم شُعُورهمْ بِالْحَاجةِ إِلَيْهِ وَترك التَّمَتُّع باللذات اشتغالا بِهِ لتَحْصِيل رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَرَأَوا أَنه يُمكنهُم الِاسْتِعَانَة بالعلماء الَّذين يتقلدون مناصب الوزارة وَالْقَضَاء والإفتاء وَغَيرهَا من الْأَعْمَال الَّتِي يحْتَاج فِيهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام فتركوا الْعلم ثمَّ جهلوا قيمَة الْعلمَاء فصاروا يقلدون الْجَاهِلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من بفتي بِعَدَمِ اشْتِرَاط الْعلم الاستقلالي (الِاجْتِهَاد) فِي إِمَام الْمُسلمين وَلَا فِي القَاضِي لِإِمْكَان استعانتهما بالمفتي الَّذِي لَا يكون إِلَّا مُجْتَهدا، ثمَّ عَم الْجَهْل فصاروا يستفتون الْجَاهِلين (أَي غير الْمُجْتَهدين) أمثالهم، ثمَّ أذاع هَؤُلَاءِ الجاهلون الَّذين احتكروا مناصب الدولة وأموالها أَن الِاجْتِهَاد قد أقفل بَابه، وَتعذر تَحْصِيله، وأوجبوا على أنفسهم وعَلى الْأمة تَقْلِيد أَفْرَاد مُعينين من الْعلمَاء والانتساب إِلَيْهِم، ثمَّ صَارُوا يقلدون كل من ينتمي إِلَيْهِم مَعَ الْإِجْمَاع على امْتنَاع تَقْلِيد الْمُقَلّد، فَضَاعَ علم الْأَحْكَام وفقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، وَالْأمة لَا تشعر، فَلَمَّا صَار أَمر الْحُكُومَة فِي أَيدي الْجَاهِلين ضَاعَت الشَّرِيعَة والاشتراع، واختل نظام الْأمة، وانحل أمرهَا وتضعضع ملكهَا، وَقع كل ذَلِك بترك مَا صَحَّ فِيهِ من أصُول الْإِسْلَام وفروعه، والجاهلون يحسبون أَنه وَقع بِاتِّبَاع تعاليمه {}
قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ محسن التنوخي فِي كِتَابه: (جَامع التواريخ) حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن بن عَبَّاس قَالَ: كَانَ أول مَا انحل من سياسة الْملك فِيمَا شَاهَدْنَاهُ من أَيَّام بني الْعَبَّاس - الْقَضَاء، فَإِن ابْن الْفُرَات (الْوَزير الْمَشْهُور) وضع مِنْهُ وَأدْخل فِيهِ قوما بالزمانات لَا علم لَهُم وَلَا أبوة فيهم، فَمَا مَضَت إِلَّا سنوات حَتَّى ابتدأت تتضع ويتقلدها كل من لَيْسَ لَهَا بِأَهْل، حَتَّى بلغت فِي سنة نيفا وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة إِلَى أَن تقلد وزارة المتقي أَبُو الْعَبَّاس الْأَصْفَهَانِي الْكَاتِب، وَكَانَ فِي غَايَة سُقُوط الْمُرُوءَة والرقاعة إِلَى أَن قَالَ: وتلا سُقُوط الوزارة اتضاع الْخلَافَة وَبلغ أمرهَا إِلَى مَا نشاهد فانحلت دولة بني الْعَبَّاس بانحلال الْقَضَاء، وَكَانَ أول مَا وضع ابْن الْفُرَات من