ومن المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة، يستغل جريمته السابقة لإخافة الناس وإرهابهم وابتزاز أموالهم، ويعيش على هذا السلطان الموهوم وهذا المال المحرم دون أن يفكر في حياة العمل الشريف والكسب الحلال.
ولقد أصبح سلطان هؤلاء المجرمين على السكان الآمنين يزاحم سلطان الحكومات بل أصبح المجرمون في الواقع أصحاب الكلمة النافذة والأمر المطاع. ومن الوقائع التي أعرفها ويعرفها غيري أن رجال الإدارة يستعينون بالمجرمين أيام الانتخابات العامة ليوجهوا الناخبين المتمسكين بحزبيتهم وجهات معينة بعد أن يعجزوا هم عن هذا التوجيه.
وقد أدى هذا المركز الخطير الذي يحتله المجرمون إلى زيادة المجرمين الشبان الذين يتطلعون بدافع من طموحهم إلى نوال كل مركز ممتاز، كما أدى إلى قلب الموازين والأوضاع، فبعد أن كانت الجريمة عاراً وذلك في القديم أصبحت اليوم مدعاة للتباهي والتفاخر، وبعد أن كان المجرم يطرد ذليلاً مهاناً أصبح اليوم عزيز الجانب مسموع الكلمة نافذ السلطان.
وتنفيذ عقوبة الحبس يقتضي وضع عدد كبير من الرجال الأصحاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع بحرياتهم ومن الاتصال بزوجاتهم، ولما كان عدد المحبوسين يزيد عاماً بعد عام والمحابس لا تزيد، فقد اضطر ولاة الأمور إلى حشرهم حشراً في غرف السجون كما يحشر السردين في علبته، وبحيث أصبحت السجون العمومية والليمانات تضم بين جدرانها عدداً يتراوح بين ثلاثة وأربعة أمثال العدد المقرر لها من الناحية الصحية (?).
أما السجون المركزية هي عادة لا تزيد على غرفتين صغيرتين ولا يقل العدد الذي تضمه في المتوسط عن ستين شخصاً، وبينما تتوافر الوسائل الصحية نوعاً ما في السجون العمومية فإنها تنعدم في السجون المركزية، فلا يوجد في كل السجون المركزية بالقطر المصري فراش للمساجين الذين يقضون مدة حبسهم جلوساً أو نياماً على الأسفلت، كما أن الأغطية في هذه السجون تكاد تكون منعدمة.