الممكن من الشواهد والدلائل والأحوال هو أيضاً داخلٌ في قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]،بل إن الانتفاع العملي بهذا الجهد أظهر من مجرد عدم قصد القلب مع ممارسة فعل الرمي؛ لأن في هذا التتبع والاستقصاء فائدتين: الأولى: متعلقة بذات الشخص الذي يُبحَث عن حاله وينظر في شواهد أفعاله، وهذا يؤدي قطعاً إلى تضييق دائرة قتل من لا يستحق ذلك إلى أقصى حد وإن لم يمكن منع ذلك تماماً، ونتيجة هذا هو المنع من إصابة دماء المسلمين أو تقليل ذلك حسب الممكن، والواقع شاهدٌ على هذه الحقيقة في سائر ساحات الجهاد والتي لم يجد المجاهدون لأنفسهم فيها مناصاً من الاعتماد على قرائن الأحوال وشواهدها في تتبع الجواسيس وقتلهم.
والفائدة الثانية: متعلقة بنفس الشخص المستقصي للشواهد والمتتبع للأمارات حيث يكون قد بذل جهده، واستفرغ وسعه، واتقى الله ما استطاع، وفي حقه يقال أيضاً: إن الميسور لا يسقط بالمعسور، فما أمكنه تحصيله وإيجاده من قرائن الأحوال وملابساتها مما يمكن أن يزيد من درجة التيقن في إثبات الجريمة على المتهم لا يسقطه العجز عن وجود الشاهدين، أو الاعتماد على إقرار المتهم.
أما في حالة رمي الترس، فإن الانتفاع باستثناء القصد القلبي عند الرمي ترجع فائدته -فقط- إلى الرامي، وإلا فإن فعله يؤدي قطعاً إلى سفك دم مسلم بريء لا يملك من أمره شيئاً، والله تعالى أعلم.
هذا وقد بين الشرع جواز الاعتماد على الشواهد والقرائن وتعاضد الدلائل في بعض المواطن التي يتعذر فيها إقامة البينات، بحيث يؤدي ترقبها والتكليف بإقامتها إلى تضييع الحقوق وإهدارها، وإنما قلت ما قلتُ بناء على أن البينة -وإن جرى الاصطلاح على معنى معين لها- إلا أنها في الحقيقة أوسع من ذلك لتشمل كل طريقة يمكن بها إثبات الحق كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: [وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْبَيِّنَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ وَمَنْ خَصَّهَا بِالشَّاهِدَيْنِ، أَوْ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ الشَّاهِدِ لَمْ يُوَفِّ مُسَمَّاهَا حَقَّهُ. وَلَمْ تَأْتِ الْبَيِّنَةُ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهَا الشَّاهِدَانِ وَإِنَّمَا أَتَتْ مُرَادًا بِهَا الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، مُفْرَدَةً مَجْمُوعَةً وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّ عَلَيْهِ بَيَانُ مَا يُصَحِّحُ