دَعْوَاهُ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَالشَّاهِدَانِ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيِّنَةِ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهَا، لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي. فَإِنَّهَا أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ إخْبَارِ الشَّاهِدِ، وَالْبَيِّنَةُ وَالدَّلَالَةُ وَالْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ وَالْآيَةُ وَالتَّبْصِرَةُ وَالْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ: مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى.] (?)
فالاعتضاد بالقرائن والملابسات في تقوية الحكم، بل الاستناد إليها أحياناً في إثباته لا شك أنه من الشرع، لأنه من البينات المعتبرة كما دل على ذلك الكتاب والسنة والاعتبار، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: [فَالشَّارِعُ لَمْ يُلْغِ الْقَرَائِنَ وَالْأَمَارَاتِ وَدَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ، بَلْ مَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرْعَ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَجَدَهُ شَاهِدًا لَهَا بِالِاعْتِبَارِ، مُرَتِّبًا عَلَيْهَا الْأَحْكَامَ] (?)
وهذا في حال تمكن الإسلام ووجود سلطته وظهور دولته، وإنما المقصود هنا هو أن الشرع قد جوز (القتل) في بعض الحالات التي تعذر فيها إقامة البينة استناداً إلى قرائن الحال واعتباراً لشواهده والتي قد تكون في بعض الحالات أقوى حجة وأظهر دليلاً وأقطع صدقاً من البينة نفسها بل حتى من الإقرار الذي يسمى (سيد الأدلة)،مع التنبيه الضروري على أن ما نحن بصدده في هذه المسألة ليس هو من الدعاوى الخاصة التي تتعلق بأعيان الناس ومظالمهم الجزئية، وإنما هو من مصالح الأمة العامة التي يرتبط بها تأمين الناس على أنفسهم، ودمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، ودينهم، ودنياهم، وبالتالي فالمفاسد المترتبة على إهدار الأخذ بالشواهد والقرائن ليست مفاسد جزئية محدودة مغمورة وإنما هي أعظم المفاسد وأفدح المضار وهو اصطلام الإسلام واستعلاء الكفرة الطغام، والجاسوسية التي هي إحدى سبل وقوع هذه المفاسد - وكلامنا عليها هنا- هي مما عمت به البلوى عموماً ظاهراً، وظهرت نكايتها وفتكها بأهل الإسلام ظهوراً واضحاً.
فإذا كان الشرع قد أباح بعض الدماء - وفي حالات جزئية - اعتماداً على القرائن والشواهد، كي لا تضيع حقوق الناس فلأن يجيز ذلك في مثل الحال التي ذكرناها -حيث الضرر العام والمفسدة الكبرى- من باب أولى وأحرى، ونشير هنا إلى بعض تلك الأدلة