إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَمُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ مِنْهُمْ مَنْ تَظَاهَرَ بِالْفَسَادِ أَدَبًا وَزَجْرًا، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى قَتْلٍ وَلَا حَدٍّ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ" فَإِذَا اعْتَزَلَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ أَهْلَ الْعَدْلِ، وَتَحَيَّزَتْ بِدَارٍ تَمَيَّزَتْ فِيهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ عَنْ حَقٍّ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ طَاعَةٍ، لَمْ يُحَارَبُوا مَا أَقَامُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ.] (?)
ثالثاً: لا أعني بقولي: ليست من مسائل القضاء رأساً، أنها خارجة عن نطاق النظر الشرعي، والتقيد بالأحكام في حقها-والعياذ بالله- فما هذا البحث بمجمله إلا لمعرفة الحكم الشرعي الواجب في هذه المسألة، وإنما المقصود أن النظر القضائي بأحكامه التفصيلية المعروفة غير متأتٍ في الواقع لأسباب عدة ذكرتها من قبلُ، أعظمها امتناع هؤلاء (المتهمين) ووجود الشوكة التي يحتمون بها ويركنون إليها، وواضحٌ من كلام الفقهاء أن ما يذكرونه من بعض أحكام الجاسوس المسلم إنما يرتبط بالواقع الذي كانوا يعيشونه من استقامة الحال، وتمكن الإسلام، وبسط سلطانه، ووجود القضاء، وندرة صور التجسس، إذ لم يكن الأمر قطعاً على ما هو عليه اليوم من هذا الانتشار الواسع (لجيوشهم) وانبثاثهم في كل شِعب وواد، ولم يكن حال الإسلام والمسلمين على ما هو عليه اليوم من الضعف والقلة والذلة، واستعلاء الكفرة وتغلبهم بقواتهم الضخمة ومعداتهم المتطورة، ولم يكن اعتماد الكفرة في حربهم للمسلمين ومداهمتهم لبلدانهم على ما هو عليه اليوم والذي صار فيه الجواسيس قطب رحى الحرب وركيزتها التي تستند إليها استناداً تاماً أو شبه تام.
فالمقصود إذاً أن النظر في تهمة التجسس التي قد توجه إلى بعض الأفراد على سبيل القضاء مع التقيد التام بملحقاته وتوابعه، فهذا يعني بالضرورة عدم التعرض لهم بتاتاً، والكف التام عنهم ابتداءً مهما حامت حولهم الشكوك، وحف بهم من القرائن، ومن ثَم تركهم يعيثون في الأرض فساداً، يصولون ويجولون، وهم آمنون مطمئنون؛ لأن قضيتهم متعلقة بالقضاء، والقضاء مفقود والقضاة معدومون فمِمَ الخوف إذاً؟!