بتكفير مرتكبها غير وارد، فلا حاجة إلى نفي ما هو منتفٍ في الواقع وفي الأفهام والعقول، ولهذا فإن حاطباً -رضي الله عنه- لم يكن ينازع أو يشك في أن مظاهرة الكفار على المسلمين كفرٌ مخرج من الملة، فهذا الأصل كان مؤكداً عنده واضحاً في نفسه، ولم يخطر بباله نفي هذا الأصل أو المخالفة فيه أو نقضه، وإنما كان كلامه منصباً على نفي أن يكون فعله من قبيل المظاهرة، فمن المعلوم أن مظاهرة الكفار وإعانتهم على المسلمين مشتملة على مُضارَّتهم ولا بد، فبمجرد أن يكون المسلم معيناً لأهل الكفر على أهل الإسلام بنفسٍ أو مالٍ أو رأيٍ أو كتابةٍ فإنه بتلك (الإعانة) قد صار مضراً للدين وأهله، فهذا الإضرار الذي تتضمنه (المظاهرة) هو الذي نفاه حاطب عن كتابه فقال: [أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ غَرِيبًا فِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ أَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ، فَكَتَبْتُ كِتَابًا لَا يَضُرُّ اللهَ وَرَسُولَهُ شَيْئًا، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَهْلِي قَالَ: عُمَرُ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمْكِنِّي مِنْ حَاطِبٍ، فَإِنَّهُ قَدْ كَفَرَ، لِأَضْرِبَ عُنُقَهُ] (?)
فلا ينبغي الخلط بين (هفوة) حاطب وزلته التي تشهد حاله وأعماله بأنه أبعد ما يكون عن المظاهرة والمناصرة للكفار على المسلمين وبين ما يفعله جواسيس العصر الذين هم "جنود الحرب الاستخباراتية" حيث أوقفوا أنفسهم وفرغوا أوقاتهم وبذلوا جهودهم لتتبع المجاهدين والتدقيق في مكامن غرتهم، والمغامرة للوصول إلى مواطنهم ومراكزهم، ووصْل الليل بالنهار لجمع المعلومات عنهم، ثم بعد ذلك تقديم كل ما تحصلوا عليه واجتهدوا في تجميعه إلى أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأعوانهم المرتدين لتكون لهم عوناً وسنداً في تقتيل المجاهدين، وأسرهم، وملاحقتهم، وتدمير مراكزهم، واصطيادهم حتى في مراكبهم، فهذا كله من مظاهرتهم على المسلمين والتي هي كفرٌ أكبر مخرجٌ من الملة والله تعالى أعلم.