فقال هؤلاء المحتجون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمع هذه الكلمات والأوصاف من عمر رضي الله عنه ومع ذلك فلم ينكر عليه إطلاقها بل أقره على ما فهم، وعمر قد قال في حق حاطب " هذا المنافق" وقال "قد كفر" وليس هذا إلا النفاق الأكبر، والكفر الأكبر المخرجيْن من الملة لأنه رتب ضرب عنق حاطب عليهما.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن في هذا الاستنباط إشكالاً: وهو أن عمر رضي الله عنه أطلق ما أطلق من الأحكام والأوصاف ليس على فعل حاطب فحسب، وإنما على حاطب نفسه إذ سماه منافقاً، وقال عنه قد كفر، وفي رواية أنه نكث وظاهر أعداءك عليك، فما فعله عمر هو تكفير لحاطب رضي الله عنه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -،فمن يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عمر فهمه وأقره عليه، فعليه أن يقول بكفر حاطب ونفاقه ونكثه ومظاهرته، ولا يقتصر على وصف مجرد فعله بأنه كفرٌ ونفاقٌ ونكثٌ ومظاهرة، وهذا لا يقول به أحدٌ قطعاً فإن الجميع متفقون على أن حاطباً -رضي الله عنه- لم يكفر وإنما الخلاف في نفس فعله.
ولهذا فلا أرى أن استنباط كون فعل حاطب كفراً بالاعتماد على قول عمر رضي الله عنه مسلكاً صحيحاً، وذلك لما ذكرته من أن عمر رضي الله عنه حكم على الفاعل لا على مجرد الفعل، فتكفير عمر لعين حاطب يكاد يكون في غاية الصراحة في بعض الرويات كما نقلته أعلاه، وكما ذهب إلى ذلك بعض الأئمة واستنبطوا منه أن حكم المتأول -في تكفير مسلمٍ- يختلف عن غيره، فهذا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بوب بقوله: [بابُ مَنْ كفَّرَ أخاه بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهْوَ كما قال] قال الإمام البدر العيني -رحمه الله -: [قيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا تَأَول فِي تكفيره يكون مَعْذُورًا غير آثم، وَلذَلِك عذر النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عمر رَضِي الله عَنهُ، فِي نِسْبَة النِّفَاق إِلَى حَاطِب بن بلتعة لتأويله، وَذَلِكَ أَن عمر بن الْخطاب ظن أَنه صَار منافقاً بِسَبَب أَنه كَاتب الْمُشْركين كتابا فِيهِ بَيَان أَحْوَال عَسْكَر رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -] (?)