بنفسه، ومثل ذلك من استهزأ بالدين لا ينفعه أن يتعلل بأنه لم يستهزأ به كفراً ولا ارتداداً ولا رضا بالكفر بعد الإيمان لأن الاستهزاء نفسه كفر، ولهذا لما احتج بعض المستهزئين بأنهم كانوا يخوضون ويلعبون، لم يجعل الشارع لاحتجاجهم اعتباراً ولم يكن تعللهم مانعاً من إسقاط الكفر عليهم حتى ولو كانوا صادقين فيما زعموا، لأن تعدد المحامل والدوافع في مثل هذا الفعل لا اعتبار له ولا اعتداد به لانعدام تأثيره وانتفاء تغير الحكم بسببه.
وهذا كما يقال: إن من فعل أو قال ما هو كفرٌ مختاراً فإنه لا يحتاج لأن يقال له هل شرحت بالكفر صدراً، ولا ينفعه أن يقول لم أشرح به صدراً فالتعليل حينئذٍ لا معنى له في الحقيقة ولا تأثير له في حكم الشرع كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: [فإن قيل: فقد قال تعالى:"ولكن من شرح بالكفر صدراً" قيل: وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة].
فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أن الإستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام ولو كان الإيمان فى قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام] (?)
القضية الثالثة: أن تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - حاطباً بعد جوابه المذكور وقوله: [لقد صدقكم] يدل على أن الجواب في نفسه يحتمل الصدق والكذب، وأن عبارة حاطب المذكورة يمكن حملها على أكثر من وجه، فبعض تلك الأوجه يكون صدقاً، وبعضها يكون كذباً، فالصدق هو ما