وقد رأيت كلاماً للعلامة عبد الرحمن البراك -حفظه الله- أطلق فيه القول بأن مجرد الجس على المسلمين لا يكون ردة، وجعل ما فعله حاطب مظاهرة، وكلاهما -فيما يظهر لي- مجانبٌ للصواب، فإن التكفير بمجرد الجس لم يزل معروفاً بين العلماء كما ستأتي أقوالهم، ووصْفُ ما فعله حاطب -رضي الله عنه- بالمظاهرة غير ظاهر كما قد رأيت، فقد فقال -حفظه الله وبارك في علمه وعمره-: [وهذا الجاسوس الذي يجس على المسلمين وإن تحتم قتله عقوبة فإنه لا يكون بمجرد الجس مرتداً، ولا أدل على ذلك من قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- فقد أرسل لقريش يخبرهم بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولما أطلع اللهُ نبيَه على ما حصل من حاطب، وعلى أمر المرأة التي حملت الكتاب عاتب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حاطباً على ذلك، فاعتذر بأنه ما حمله على ذلك إلا الرغبة في أن يكون ذلك يداً له عند قريش يحمون بها أهله وماله، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره، ولم يأمره بتجديد إسلامه، وذكر ما جعل الله سبباً لمغفرة الله له، وهو شهوده بدراً. (?)
وهذه مظاهرة أي مظاهرة، فإطلاق القول بأن مطلق المظاهرة -في أي حال من الأحوال- يكون ردة ليس بظاهر. فإن المظاهرة تتفاوت في قدرها ونوعها تفاوتاً كثيراً، وقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [المائدة:51]،لا يدل على أن أي تولٍّ يوجب الكفر، فإن التولي على مراتب، كما أن التشبه بالكفار يتفاوت وقد جاء في عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (?)
،ومعلوم أنه ليس كل تشبه يكون كفراً فكذلك التولي. (?)
والأغرب من هذا حكايته الإجماع على عدم كفر الجاسوس! في أجوبته على أسئلة أعضاء ملتقى أهل الحديث حينما سأل: ما هو الفعل الذي وقع فيه الصحابي حاطب؟ ومن أي نوع هو؟ وهل من فعل مثل ما فعل حاطب الآن لا يكفر؟ فأجاب -وفقه الله-: [ ... فلم