بقطعي وفي مثل هذا يأتي الاستفصال والاستفسار والاستبيان عن الدافع والقصد كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حاطب رضي الله تعالى عنه.
ولتوضيح المسألة أكثر نضرب لذلك مثلاً: فلو أن رجلاً كتب كتاباً إلى كفار قريش وأخبرهم بعزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم ثم أطلعهم على طريق سير جيش المسلمين، ومواطن إقامتهم، وعدد جنودهم، كي يكمنوا لهم في الشِعب، ويُعدوا العدة المكافئة لقتالهم لمَا كان هناك أدنى تردد في كفر مَن يفعل ذلك، فصورة المظاهرة هنا واضحة جلية، ومهما ادعى فاعل ذلك من الأعذار فتقديمه للدنيا على الدين بينة قطعية، وهذا هو عين ما يفعله جواسيس العصر بل هم يشاركون أولياءهم في الحرب مشاركة فعلية لا تقتصر على نقل الأخبار والتحريض على قتل الأخيار، أما فعل حاطب -رضي الله عنه- فهو أبعد ما يكون عن هذه الصورة، وإنما اتخذ صفة التجسس بالنظر إلى اشتمالها على إفشاء سر النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين، أما قيام وصف المظاهرة في فعله فغير ظاهر والله تعالى أعلم.
وأضرب مثالاً آخر لزيادة التوضيح: فلو أن رجلاً مقيماً بين ظهراني المجاهدين، وهمه وعمله تتبع الأخبار والتفتيش عنها والحرص على تحصيلها بقصد إيصالها للكفار، فعلم أن المجاهدين سينتقلون من مدينة إلى مدينة أو من مركز إلى مركز وسيمرون على طريق كذا وكذا، فبادر بإرسال الخبر إلى الكفرة ليعلمهم بذلك كي يكمنوا لهم في تلك الطريق ويقتلوا من يقتلوه منهم ويأسروا من يأسروه، فلا شك أن فعله هذا مظاهرة جلية وإعانة واضحة قطعية لأولئك الكفرة على المسلمين وهو ناقض من نواقض الإسلام بلا تردد، وفي المقابل لو أن شخصاً من المجاهدين المناصرين للدين حقاً وصدقاً التاركين لديارهم وأموالهم وأهليهم سمع أن المجاهدين سيغيرون على مركز من المراكز له فيها أخٌ أو قريبٌ فأرسل إليهم: أن اخرجوا من مركزكم وابتعدوا عن ثكنتكم لا يستأصلكم المجاهدون بجيشهم العرمرم الذي لا قبل لكم به لكان الفرق بين هذه الصورة والتي قبلها واضحاً - مع اجتماعهما في معنى التجسس - إذ حقيقة المظاهرة في الحالة الثانية غير ظاهرة وأمر الكفر فيها محتمل ولهذا تحتاج إلى الاستفصال وهي الحالة الموافقة لما فعله حاطب رضي الله تعالى عنه.