ونستطيع أن نقول: إن السّجع في خطابة هذا العصر كان شيئًا عارضًا؛ إذ كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يستعمله في خطابته، وكان ينفرُ منه حين يلهج به أحد محدثيه، كراهية للتشبه بالكهان في سجعهم، وعلى ذلك صار الخلفاء الراشدون والصحابة من بعدهم.
وأخرى تُلاحظ على الخطابة في عصر الإسلام، بالقياس إلى الخطابة في الجاهلية؛ فإنّ الخَطَابةَ في الجَاهلية لم تكن ذات موضوع مُحدد، ومن ثَمّ كانت تأخذ شكل أقوال متنافرة، لا رابط بينها، أما في الإسلام فقد أصبح للخطابة موضوع واحد، يجول فيه الخطيب ويَصُول، إذا يُحَدّث الناس واعظًا، أو يعرض عليهم حدثًا محدد من أحداث الإسلام، بحيث نستطيع أن نقول: إن الخُطبة أصبحت ذات موضوع، تلم بأطرافه وتفاصيله.
وبذلك كله نهضت الخطابة، ونهض معها النثر نهضة واسعة، فقد أخذ الخطباء يوسعون طاقته بما يحملون من معاني الإسلام، وما يبسطون في هذه المعاني ويولدون ويفرِّعون.
وإذا كانت الخطابة تستمد قوتها من النفس فلا بُدّ أن نذكر الأمور التي كانت في تلك الحياة، وغذت النفوس غذاء نمت به الخطابة وازدهرت وقويت ونهضت، وأعظم تلك الأمور شأنًا وأجَلُّها في حياة العرب خطرًا وفي الخطابة أثرًا "القرآن الكريم".
لقد جاء القرآن الكريم فهزّ النّفْسَ العَربية وأصاب شِغَافَها، وقد تَحَدّى أعَاظِمَ البُلَغَاءِ فيهم أن يأتوا بسورة منه، أو مثله، أو من مثله؛ فعجزوا عن ذلك كله، وقد قال الجاحظ في إعجازه: "بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في زمن أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة. فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالاته فدعاهم بالحُجّة.