بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام)
إنّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
فلقد اتّضح من كُلِّ ما قَدّمنا كيفَ نمت الخطابة، في صدر الإسلام نموًّا سريعًا بتأثير إسلامي من جهة، وبتكاثر الأحداث وتتابعها من جهة ثانية، وليس هذا كُلُّه ما يُلاحظ فيها؛ فقد دارت حول معاني القرآن الكريم، وخطابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه، وهي معان جديدة لم يكن للعربية بها عهد؛ معاني هذا الدين الحنيف، الذي بعثَ لُغتنا ونشرها بعثًا جديد، والذي مرنها ودَلّلها لكي يَحُلّ قبسًا من هذه التعاليم والمواعظ، يستضيء بها في كل ما يخاطب به الناس، ابتغاء التأثير عليهم وبلوغ ما يريد من أداء الخطبة الدينية الخالصة في أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج. والخطب التي تدعو إلى الجهاد وتحض على القتال.
ولعله من أجل ذلك أصبح التّحميد سنة في كل خطبة، حتى الخطبة السياسية؛ وكانوا يسمون كل خطبة تخلو من الحمد "الخطبة البتراء" كما كانوا يُسمون كل خطبة تخلو من اقتباس آي القرآن الكريم والصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- "شوهاء".
وهُناك أخبار كثيرة تدُلّ على أنّ الخُطَباء كانوا يُزَوّرون كلامهم، ويُعِدّونهم على أنفسهم إعدادًا طويلًا، ثُمّ يُلْقُونه على الناس؛ حتّى لقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك، وكان الخطيب يستشهد أحيانًا ببعض الأمثال، أو ببعض أبيات من الشعر؛ تُؤَكّد المعنى الذي يُريد أن يَصُبّه في نفوس سامعيه صبًّا، على نحو ما نجد في خطبة لأبي بكر في الأنصار.
وإذا كنا قد لاحظنا من تاريخ الأدب العربي غلبة السجع على خطباء الجاهلية؛ فإننا نلاحظ في عصر الإسلام أنه كاد ينحسر تمامًا من الخطابة، إلا بقايا ضلت في خطابة الوفود، حين كانت تقدم على الخلفاء.