فلمّا انتهى هذا الخطيب من خطبته، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس، أن يجيب الرجل؛ فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيها أمره، ووسع كرسيه عمله، ولم يكن شيء قط إلّا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا، أكرمهم نسبًا وأصدقهم حديثًا، وأفضله حسبًا؛ فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا النّاس إلى الإيمان، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أناسبًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحن، فنحن أنصار الله وزراء رسوله، فقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله؛ فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهرناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم".
والفرق واضح جدًّا بين خُطبة خطيب ذلك الوفد، وبين خطبة خطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وأخيرًا إليك دواعي الخطاب في عصر الإسلام:
كانت دواعي الخطابة في ذلك العصر تتفق مع ما عرض لهم، وما سادهم من الحياة، وما طرأ عليهم من أحوال وشئون سياسية واجتماعية، وكان بدهيًّا أنْ تَكُون أولى الدواعي للخطابة هي الدعوة المحمدية، والرّدّ عليها؛ فقد جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- بذلك الدين الجديد، في قوم القول صناعتهم، والبَلاغة جل عنايتهم؛ فناداهم بأبلغ القول، وخاطبهم بأروع الكلام، وخطب في مجامعهم مؤيدًا رسالته، ناشرًا دعايته، حتى ضاقت صدورهم عن سماع قوله، بعد أن عجزوا مجادلته ومقارعته الحُجّة بالحجة، فامتشقوا الحسام، وتكلموا بالسنان بدل اللسان.
فالخطابة كانت الأداة الأولى للدعوة المحمدية، وكانت السلاح الذي يرفعه خصومه في الرد عليه؛ فكانت تلك الدعوة سببًا في انتشار الخطابة، ورفع درجة البيان.