فليست الدعوة فنًّا مُكتسبًا من الفنون التي تشيع بين الأفراد والجماعات، ولو كانت كذلك لما عَرفَ النّاسُ شَيئًا عن الدعوة، ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- قادة الدعاة وسادتهم، وبهم وعلى أيديهم انتشرت الدعوة في آفاق الأرض وظلت رايتها تخفق فوق ربوعها ردحًا طويلًا من الزمن.
وهذا شيء لا يَعْلَمُه إلا الله تعالى وحده في سرائر الناس؛ فإذا علمه أظهره بتيسير كل سبيل إلى إظهاره؛ فيكون الاصطفاء منه للداعية، وأعظم الدعاة هم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا- وهم الصّفوة المُختارة المُجتباة، الذين هَيّأهم اللهُ لحَمْل رِسَالاته والدعوة إليها، وفي هذا يقول رَبُّنَا سُبحانه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} (آل عمران: 179).
وتوكيدًا لهذا المعنى يجعل مَناطَ الرِّسَالَة المُكَلّف بإبْلَاغِهَا والدّعْوة إليها ممّا اخْتَصّ نَفْسَه الشّريفة بعلمه؛ فَلا يُطْلِعُ على ذلك أحدًا من خلقه؛ إلا بعد أن يُرى الداعية حقيقة ماثلة أمام الناس جميعًا، وفي هذا يقول ربنا سبحانه: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) وهذه الموهبة لا تظهر للناس إلا بإذن ربها؛ فإذا كان اختيار الله للداعية إن كان نبيًّا مرسلًا من عنده كان الإذن بإبلاغ الرّسَالة التي أمر بإبلاغها: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} (الرعد: 38).
فتظهر المَوهبة ويتداعى النّاسُ الذين تسقط الغشاوة عن قلوبهم إليها، في رجاء وصدق. أمّا الذين يُمسكون على غَشاوة قلوبهم بأيديهم؛ فإنهم يَظَلُّون في منأى عنها، ومشيئة الله -عز وجل- تقضي أن تقع الخلائق كلها في قبضتها، ومنها موهبة الداعية؛ فلا تسلك الناس في نظامها إلا إذا شاءت، وهذه الموهبة تظل منتظرة الإذن من ربها أن يظهرها أو يلهمها أن تظهر، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} (الفرقان: 51).