من نقضه عاد كافرًا آثما قلبه. لقد انتهى عهد الحياة القبلية وكل ما اتصل بها من تنابذ وتفاخر، فالناس جميعا لآدم، ولا عربي عدناني ولا عربي قحطاني، بل لا عربي ولا أعجمي، فقد وضعت موازين جديدة لحياة العرب، فلم يعد التفاضل بالنسب والحسب، إنما أصبح بالتقوى فهي معيار التفاضل، ويلفت الرسول سامعيه إلى ما قرره القرآن الميراث وأنصبته، وأن للمورث أن يوصي بالثلث من ماله، ويرسي قاعدة مهمة في شرعية الأبناء، وخاصة هؤلاء الذين تلدهم العواهر، فينسبهم إلى أصحاب الفراش، وكانوا ينسبونهم إلى غير آبائهم، وقد لا ينسبوهم أبدا، فحرم ذلك تحريما باتًّا، وبذلك قضى عليه نبالة النسب من جهة الخئولة قضاء مبرما.
وعلى هذا النحو كان الرسول صلوات الله عليه يبين في خَطابته حدود الحياة الإسلامية وما ينبغي أن يأخذ به المسلم نفسه في علاقاته الكبرى مع أفراد أمته وعلاقاته الصغرى مع أسرته. فإن ترك ذلك فإلي وعظ المسلمين وما ينبغي أن يأخذوا أنفسهم به، في سلوكهم حتى تزكو نفوسهم، وفي عبادتهم لربهم وتقواه حق التقوى حتى لا يزيغوا ولا ينحرفوا عن المحجة، بل يتدرجون في مراقي الكمال الإنساني.
وهذه الخطبة وسابقتها تصوران في دقة حسن منطق الرسول في خطابته، وأنه لم يكن يستعين فيها بسجع ولا بلفظ غريب، فقد كان يكره اللونين جميعا من الكلام لما يدلان عليه من التكلف، وقد برأه الله منه؛ إذ يقول في كتابه العزيز: قل يا محمد: "ما أنا من المتكلفين". والذي لا شك فيه أنه كان يبلغ بعفوه وقوى فطرته ما تنقطع دونه رقاب البلغاء، وقد وصف الجاحظ بلاغته في خطابته أدق وصف، فقال إنه: جانب أصحاب التقعيب1،