واستعمل المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، لم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالترفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقسم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة ... ولم يسمع الناس بكلام قد أعم نفعا ولا أقصد لفظا ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه -صلى الله عليه وسلم- ونضيف إلى الجاحظ أنه عليه السلام هو الذي فتق معاني هذه الخطابة الدينية التي لم يعرفها العرب قبله، فهو الذي رسمها، وفجر ينابيعها بحيث أصبحت مادة للخطباء من بعده، وكأنما احتشد الكلم بأزمته إليه؛ ليختار منه أفصحه وأسلسه وأبينه في الدلالة، يسعفه في ذلك ذوق مرهف وحسن دقيق نتبينهما فيما روي عنه من قوله: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي" كراهية أن يضيف المسلم الطاهر إلى نفسه الخبث، مما يدل على أنه لم يكن ينطق إلا باللفظ المختار البريء من كل ما يستكره، اللفظ الذي يحبب إلى النفوس؛ لحلاوته وعذوبته وصفائه ونقائه.