أن يكون صادقا. ثمّ رأيت والله من صلاحه وإنابته وحسن خدمته ما دعاني إلى نسيان جميع قصّته، حتى دفعت إليه يوما ثلاثين دينارا ليوصلها إلى أهلي، فلمّا صارت إلى يده ذهب على وجهه، فلم ألبث إلّا أيّاما حتى ردّه النّاشد، فقلت له:
زعمت أنّ الدّنانير الأولى طرّت منك، فما قولك في هذه الثانية؟ قال: أنا، والله أعلم أنّك لا تقبل لي عذرا، فدعني خارج الدار، ولا تجاوز بي خدمة المطبخ؛ ولو كان الضّرب يردّ عليك شيئا من مالك لأشرت عليك به، ولكن قد ذهب مالك، والضّرب ينقص من أجرك؛ ولعلّي أيضا أموت تحت الضّرب فتندم وتأثم وتفتضح ويطلبك السلطان. ولكن اقتصر بي على المطبخ فإنّي سأسرّك فيه، وأوفره عليك. وأستجيد ما أشتريه وأستصلحه لك. وعدّ أنك اشتريتني بستّين دينارا! فقلت له: أنت لا تفلح بعد هذا! اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى! فقال لي: أنت عبد فكيف يجوز عتقك.
قلت فأبيعك بما عزّ أو هان! فقال: لا تبعني حتّى تعدّ طبّاخا، فإنّك إن بعتني لم تتغذّ غذاء إلّا بخبز وباقلاء. قال: فتركته ومرّت بعد ذلك أيام فبينا أنا جالس يوما إذ مرّت عليّ شاة لبون كريمة، غزيرة الدّرّ كنا فرّقنا بينها وبين عناقها فأكثرت في الثّغاء، فقلت كما يقول النّاس، وكما يقول الضّجر: اللهمّ العن هذه الشاة! ليت أنّ الله بعث إنسانا ذبحها أو سرقها، حتى نستريح من صياحها! قال: فلم ألبث إلّا بقدر ما غاب عن عيني، ثمّ عاد فإذا في يده سكّين وساطور وعليه قميص العمل، ثمّ أقبل عليّ فقال: هذا اللّحم ما نصنع به وأيّ شيء تأمرني به؟ فقلت: وأيّ لحم؟ قال: لحم هذه الشاة. قلت: وأيّما شاة؟ قال: التي أمرت بذبحها. قلت: وأي شاة أمرت بذبحها؟
قال: سبحان الله! أليس قد قلت السّاعة: ليت أن الله تعالى قد بعث إليها من يذبحها أو يسرقها، فلما أعطاك الله تعالى سؤلك صرت تتجاهل! قال روح: فبقيت والله لا أقدر على حبسه ولا على بيعه ولا على عتقه.
وقال مسكين الدّارميّ [1] : [من الطويل]
إنّ أبانا بكر آدم، فاعلموا ... وحواء قرم ذو عثانين شارف [2]
كأنّ على خرطومه متهافتا ... من القطن هاجته الأكفّ النوادف [3]