وأطلَس عَسَّالٍ وَمَا كَانَ صَاحِباً ... دعوْتُ لنَارِي مَوْهِناً فأَتانِي
فَلَمَّا أَتَى قُلْتُ: ادْنُ دونَكَ إنَّنِي ... وإيَّاك في زَادِي لَمُشْتَرِكانِ!
فبِتُّ أقُدُّ الزَّادَ بَيْنِي وبَيْنَه ... على ضوء نارٍ مرةً ودُخَانِ
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تكَشّر ضاحِكاً وقَائِمُ سَيْفي مِنْ يَدِي بِمكَانِ
تَعَشَّ فَإنْ عاهَدْتَنِي لا تخوننيتكُنْ مِثْلَ مَنْ يا ذِئْبُ يصْطَحِبَانِ
وأنتَ امْرُؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ... أُحَيَّينِ كَانَا أُرْضِعا بِلبَانِ!
ولو غَيرنَا نَبَّهْتَ تلتمس القِرَى ... رَمَاكَ بِسَهْم وشَبَاةِ سِنَان
وقوله: وأطلس: أي ورب ذئب أطلس، والأطالس: الأغبر اللون، قال الراجز يصف ذئباً:
بَهْمُ بَنِي مُحارِب مِنْ دَارِه ... أطْلَسٌ يُخْفى شخصهُ غُبارُه
في شِدقه شفَرَتُه ونارُه ... مَمْشاه مَمْشَ الكلْب وازْدِجارُه
هُوَ الخَبِيثُ عَيءنه فَرَارُه
العسال: الذي يضطرب في مشيه.
وقوله: دعوت لناري: يقول: لما رأى ناري أقبل إلي، وكأن النار عدته. ويروى: رفعت لناري، وهذا من المقلوب كما يقال: أدخلت الخاتم في أصبعي، وإنما الوجه: أدخلت أصبعي في الخاتم، وكذلك الوجه: رفعت له ناري، وفي قوله: ادن امر بالقرب. وقوله: دونك: أمر بالأكل.
ومعنى أقد: اقطع، ومعنى تكشر: تكشفت أسنانه.
وقوله: لا تخونني: جملة في موضع نصب، على الحال، أي إن عاهدتني غير خائن، واراد: مثل من يصطبان يا ذئب، ففرق بين الصلة والموصول ضرورة، وإنما قال: وأنت امرؤ، وهذا الإسم إنما يقع على من يعقل؛ لأنه أجراه مجرى من يعقل: في أن خاطبه وكلمه وطلب منه المعاهدة، فأجراه أيضاً مجرى العاقل المميز في أن سماه امرأً.
وشباة السنان: حده.
وإنما احتذى الفرزدق في هذا الشعر: قول امرئ القيس: بأنه وصف ذئبا وكلمه ودعاه إلى الصحبة، ويروى للنجاشي وهو قوله:
وماء كلوْن البول قد عاد آجنا ... قليل به الأصوات في كلأ مَحل
لقيتُ عليه الذِّئب يَعوي كأنه ... خَلِيعٌ خَلاَ مِن كلِّ مَالٍ ومِن أهلِ
فقلت له يا ذِئبُ هَل لَكَ في أخٍ ... يواس بِلاَ أُثْرىَ وَلاَ بُخْل
فقال: هَدَاك اللهُ إنَّكَ إنَّما ... دَعوْتَ لِمَا لَمْ يَأْتِهِ سَبُعٌ قَبْلِي
فَلَستُ بآتِيهِ وَلاَ أستطيعُهُ ... ولاكِ اسقِنِي إن كَانَ ماؤَك ذا فَضْل
أراد: ولكن، فحذف النون لالتقاء الساكنين ضرورة.
وأنشد أبو القاسم في باب التكسير:
وإذَا الرِّجال رَأَوا يزيدَ رأَيتَهم ... خُضُعَ الرِّقاب نَوَاكِسَ الأَبصَارِ
هذا البيت: للفرزدق، من شعر يمدح به يزيد بن المهلب، يقول فيه:
وإذا النُّفُوس جَشَأْنَ طَأْمَنَ جَأشَها ... ثِقَةً بها لحماية الأدْبارِ
ما زال مُدْ عقدتٌ يداه إزارَهُ ... فسَمَا فأدرَك خمسةَ الأشْبارِ
يُدْني كتائبَ تلتقي ... للطَّعن يومَ تجاول وغِوَار
وقد مضى كلامنا في هذا الشعر ومعنى جسأن: ارتفعن من الصدور، وهممن، بالخروج من الفزع، كما قال الله تعالى: " وبلغت القلوب الحناجر "، وقال ابن الإطنابة:
وقَوْلي كلَّما جَشأتْ وجَاشَتْ ... مَكانَكِ تُحمدِي أو تستريحي
وطأمن: سكن.
وجمع ناكساً على نواكس، وكان القياس أن يقول: نكاس أو نكس، فكأنه حمله على تأنيب الجمع الذي ثالثه ألف، وبعده حرفان، او ثلاثة لا يتهيأ تكسيره؛ لأنه نهاية التكسير، وأراد جمعه، فلم يمكنه ذلك، إلا: بأن يجمعه جمع السلامة؛ لأنه لا يغير افسم عن لفظه، كما قال الأول:
فَهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَاتِها
ونضب خضع الرقاب: على الحال؛ لأن إضافته غير محضة، وكذلك إضافة نواكس، لن المعنى: خضعاً رقابهم، نواكس أبصارهم.
وأنشد أبو القاسم في باب: تكسير ما كان على فعلة: -
ولمّا رَأَوْنَا بَادِياً رُكُبَاتُنا ... عَلَى حَالَةٍ لاَ تَخْلِطُ الجِدَّ بالهزَلِ