كثير من الناس على أنه أراد بالقيسي عمر بن هبيرة الفزاري، وكان قد عزل عن العراق، وولى مكانه خالد بن عبد الله القسري، فذكر أن عمراً لم يغلب بسوء سيرة، وإنما غلبه خالد لخساسته، لأن خساس الناس من شأنهم أن يظهروا على فضلاء الناس، كم اقال القائل:
أرى زَمناً نَوكَاهُ أسْعدُ أهله ... ولكنَّهُ يَشقَى به كلُّ عاقل
مشى فوقه رجلاه والرَّأْس تحته ... فكفّ الأعالي بارتفاع الأسافل
وذكر الطفو على الماء؛ لأن من شأن الجيف والأقدار أن تعلوأ فوق الماء، ومن شأن الدر أن يرسب تحت الماء، كما قال الآخر:
زَمَنٌ عَلاَ قَدْرُ الوَضِيع به ... وغَدَا الشَّريف يحُطُّه شَرَفُه
كالبحر يَرْسُب فيه لُؤْلُؤْهُ ... سفْلاً وتطفوا فوقه جِيَفُه
وخص الغرلة بالذكر، لأن أم خالد كانت نصرانية، وكان هو بظهر افسلام غير معتقد له!! ويروى أنه كلف جماعة من المسلمين أن يبنوا كنيسة لأمه فأبوا عليه، وامتنعوا من ذلك وقالوا: كيف يليق بمسلم أن يبني كنيسة؟ فقال: قبح الله دين النصارى إن كان شراً من دينكم!! فقال الفرزدق في ذلك:
ألا قبَّح الرحمن ظهر مطيّة ... أتتنا تَهَادَى مِنْ دمشْق بخالِدِ
وكيف بأمُّ النَّاسَ من كانت أَمُّه ... تُدِين بأنَّ الله لَيْس بواحِدِ
بنى بيعةً فيها الصليب لأمِّه ... ويَهْدم مِنْ بُغْضٍ منارَ المساجد
وكان خالد قد اتصل به قول بعض الشعراء:
ليتني في المؤذنين حياتي ... إنَّهم يبصرون مَنْ في السطوح
فَيُشِيرون أو تُشِيرُ إليهم ... بالهوى كلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيحِ
فأمر بأن تهدم الصوامع، وتسوى مع السقوف!.
وذكر بعض المنادين: أن العرب كانوا يمتحنون ذكورة المولود وأنوثته إذا ختن؛ بأن تلقى غرلته في الماء، فإذا رسبت قالوا: إنه يكون مذكرا، وإن طفت غرلته قالوا: إنه يكون مؤنثاً، لا خير فيه، وهذا يرجع إلى غلبه الأخس الأفضل، على ما تقدم ذكره.
وقال أبو علي الفارسي: أخبرني أبو بكر بن السراج، قال: أخبرني أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، قال: أخبرني المازني أنه رأى هذا البيت بخط سيبويه، في آخر كتابه عند رجل من بني هاشم، يقال له: عبد السلام بن جعفر.
قال: وقال المازني: هذا البيت للفرزدق، قاله في رجلين استبقا، أحدهما من قيس، والآخر من عنترة، فسبق العنزي وكان اسمه خالداً.
وهذا التفسير يوجب أن يروى: من سوء سيره، لأنه مصدر سار يسير سيراً، وهو غير موافق للبيت، لأنه لا وجه فيه لذكر الغرلة إلا على التفسير الأول.
ووقع في نسخة كتاب سيبويه التي رواها أبو بكر مبرمان هذا البيت على رواية أخرى وهي:
وما غُلِبَ الْقَيْسيُّ من ضعف قوةٍ ... ولكن عَلَتْ عَلمْاء غُرْلَةُ قنبِرِ
ولم يذكر أنه للفرزدق، ولم أجد هذا البيت فيما طالعت من شعر الفرزدق، فأقف منه على حقيقته!.
وبعد فإني احمد الله الذي وفقني للقيام بإخراج هذا الكتاب الذي يطبع لأول مرة بعد قرابة تسعة قرون مضت بعد حياة مؤلفة الجليل: أبو محمد عبد الله ابن السيد رحمه الله وتغمده بفضله.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.