لِلصَّحَابَةِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ , وَأَنَّ جُنُودَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَزَلْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ , وَشَارِبِ الْخَمْرِ , وَظَالِمِ الْأَيْتَامِ , وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ الْغَزْوِ لَا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا بَعْدَهُ , وَأَنَّ الْحِسْبَةَ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ نَحْوَ إرَاقَةِ الْخَمْرِ , وَكَسْرِ الْمَلَاهِي وَغَيْرِهَا , فَإِذَا مُنِعَ الْفَاسِقُ مِنْ الْحِسْبَةِ بِالْقَوْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ قَوْلِهِ عَمَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْحِسْبَةِ بِالْفِعْلِ , لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقَهْرُ , وَتَمَامُ الْقَهْرِ أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْحُجَّةِ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. فَإِنْ قَهَرَ بِالْفِعْلِ فَقَدْ قَهَرَ بِالْحُجَّةِ , وَأَنَّ الْحِسْبَةَ الْقَهْرِيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ , فَلَا حَرَجَ عَلَى الْفَاسِقِ فِي إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ الْمَلَاهِي إذَا قَدَرَ. وَكَمَا إذَا أَخْبَرَ وَلِيُّ الدَّمِ الْفَاسِقَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ مِنْ الْجَانِي وَلَوْ بِالْقَتْلِ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ بِعَفْوِ وَلِيِّ الدَّمِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
أَمَّا مَنْ اشْتَرَطَهَا فِي حَالَةِ التَّطَوُّعِ وَالِاحْتِسَابِ , فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالنَّكِيرِ الْوَارِدِ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ , مِثْلَ قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) سورة الصف، وقوله تعالى: فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ عليه السلام لَمَّا نَهَى قَوْمَهُ عَنْ بَخْسِ الْمَوَازِينِ وَنَقْصِ الْمَكَايِيلِ: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ» (?).
أَمَّا وَجْهُ الِاشْتِرَاطِ فِي صَاحِبِ الْوِلَايَةِ , فَلِأَنَّهُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ النَّاظِرِ: إنَّ وِلَايَةَ الْحِسْبَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْوِلَايَاتِ فِي الْإِسْلَامِ قَدْرًا , وَأَعْظَمِهَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ مَكَانَةً وَفَخْرًا , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّيهَا مُتَوَفِّرَةً فِيهِ شُرُوطُ الْوِلَايَةِ , فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَلِيَهَا إلَّا مَنْ طَالَتْ يَدُهُ فِي الْكَمَالَاتِ وَبَرَزَ فِي الْخَيْرِ وَأَحْرَزَ أَوْصَافَهُ الْمَرَضِيَّةَ , وَلَا تَنْعَقِدُ لِمَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ الشُّرُوطُ , لِأَنَّ مِنْ شَرَفِ مَنْزِلَةِ مَنْ تَوَلَّاهَا أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ (?).
وَلِأَنَّ سَبِيلَ عَقْدِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَنْ قَامَ بِهَا وَصْفُ فِسْقٍ وَفَقْدُ عَدَالَةٍ , إذْ الْعَدَالَةُ مُشْتَرَطَةٌ فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ , كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى فَمَا دُونَهَا , لِأَنَّ مَنْ انْعَقَدَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي الْقِيَامِ بِحَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُهِمَّةِ فِي الدِّينِ صَارَ مُفَوَّضًا لَهُ فِيمَا قَدَّمَ إلَيْهِ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا أَيَّ أَمِينٍ , وَلَا أَمَانَةَ مَعَ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَصْفُ الْعَدَالَةِ (?).