وَقَالَ الْجَصَّاصُ (?): أَصْلُهَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَصِدْقُ اللَّهْجَةِ وَالْأَمَانَةِ. وَالْعَدْلُ مَنْ يَكُونُ مُجْتَنِبًا عَنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَكُونُ مُصِرًّا عَلَى الصَّغَائِرِ , وَيَكُونُ صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ , وَصَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ , وَيَسْتَعْمِلُ الصِّدْقَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً وَيَجْتَنِبُ الْكَذِبَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً. وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ تَحَقُّقَ الْعَدَالَةِ فِي الْمُحْتَسِبِ إذَا كَانَ مُتَطَوِّعًا غَيْرَ صَاحِبِ وِلَايَةٍ , وَاشْتَرَطُوهَا فِي صَاحِبِ الْوِلَايَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَا سَيَأْتِي.

أَمَّا وَجْهُ عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا فِي الْأَوَّلِ , فَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ تَشْمَلُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ , وَإِنْ تَرَكَ الْإِنْسَانُ لِبَعْضِ الْفُرُوضِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فُرُوضًا غَيْرَهَا , فَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الصَّوْمِ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ , فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ سَائِرَ الْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ سَائِرِ الْمُنْكَرِ , فَإِنْ فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْهُ , وَأَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - أَجْرَى فَرْضَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَجْرَى سَائِرِ الْفُرُوضِ فِي لُزُومِ الْقِيَامِ بِهِ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ (?). فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ , وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ} (?).

َقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُقْبَانِيُّ التِّلْمِسَانِيُّ الْمَالِكِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي الْعَدَالَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِفَةِ الْمُغَيِّرِ (الْمُحْتَسِبِ) أَوْ لَا. فَاعْتَبَرَ قَوْمٌ شَرْطِيَّتَهَا , وَرَأَوْا أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُغَيِّرُ , وَأَبَى مِنْ اعْتِبَارِهَا آخَرُونَ , وَذَلِكَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الشَّخْصِ فِي رَقَبَتِهِ كَالصَّلَاةِ فَلَا يُسْقِطُهُ الْفِسْقُ , كَمَا لَا يَسْقُطُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ بِتَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِأَمْرِ الشَّرْعِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ} (?) وَلَيْسَ كَوْنُهُ فَاسِقًا أَوْ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ بِعَيْنِهِ يُخْرِجُهُ عَنْ خِطَابِ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ طَرِيقَ الْفَرْضِيَّةِ مُتَغَايِرٌ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ (?): وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ , لِأَنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَلْقِ , وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ (?): الْحَقُّ أَنَّ لِلْفَاسِقِ أَنْ يَحْتَسِبَ , وَبُرْهَانُهُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاحْتِسَابِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَاطِيهِ مَعْصُومًا عَنْ الْمَعَاصِي كُلِّهَا؟ فَإِنْ شُرِطَ ذَلِكَ فَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ , ثُمَّ حَسَمَ لِبَابِ الِاحْتِسَابِ , إذْ لَا عِصْمَةَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015