ذلك، فإن قلت: فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان، فهل يجب عليه إخراجها، وكل من رأى مالًا لمسلم أشرف على الضياع، هل يجب عليه حفظه؟.
فإن قلت: إن ذلك واجب، فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخرًا لغيره طول عمره، وإن قلتم: لا يجب، فلم يجب الاحتساب على من يغصب مال غيره، وليس له سوى مراعاة مال الغير.
فنقول: هذا بحث دقيق غامض، والقول الوجيز فيه: أن نقول: مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه، أو خسران في ماله، أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم، بل هو أقل درجات الحقوق، والأدلة الموجبة في حقوق المسلمين كثيرة، وهذا أقل درجاتها، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام، فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام.
بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم، وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الحق إليه، وجب عليه ذلك، وعصى بكتمان الشهادة، ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه، فأما إن كان عليه ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك، ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهمال تعريف القاضي بالشهادة، وذلك لا رخصة فيه، ولا يمكن أن يراعى فيه الأقل والأكثر؛ حتى يقال: إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلًا، وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه؛ لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه، كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف، ولا سبيل للمصير إلا ذلك.