الكر، كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق، ورجم الزاني، وجلد الشارب على مضرة السرقة، والزنا، والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة، وفيها ضرر؛ لدفع ما هو أعظم ضررًا منها، وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير.
وأما الرّابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة، ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج؛ لقيام غيره مقامه، ولأنّ البرء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء، فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية.
أما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محذورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرد، فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين، ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول؛ فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه، وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت بالعقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين.
فإذا ازدحم واجبان لا يُمكن جمعهما، فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجبة، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك