الحديث السابق، فجاء هذا الحديث مبينًا وموضحًا لنا كيفية رفع العلم، فبين لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الله -سبحانه وتعالى- لا يقبض العلم، أي: يرفعه انتزاعًا ينزعه من صدور الرجال، أي: يمحوه من صدورهم، ولكن ارتفاع العلم وقبضه إنما يكون بقبض العلماء، أي: بموتهم فكلما مات عالم لم يظهر أو لم يخلفه في علمه عالم آخر، وهكذا حتى ينتهي العلماء وينتهي معهم علمهم ويقبر معهم، حتى إذا لم يبقِ الله تعالى عالمًا إذا بالناس يذهبون إلى الجهال فيولونهم أمور دينهم وتكون لهم الفتوى، فيفتون بما لا يعلمون، ويقلدونهم أعلى المناصب، وتكون لهم الكلمة، فإذا سئلوا أفتوا بغير علم.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- ((اتخذ الناس رؤساء جهالا)) يشير إلى أن الجهل أصبح سمة الناس، فالكل في جهل مطبق، وبجهلم يولون جهالا اعتقادًا منهم بأن لهم علم، وأنهم يصلحون للإفتاء ولأمور الدين في دينهم ودنياهم، وإذا بهؤلاء الجهال بجهلم أيضًا يسارعون فيقبلون ويفتون ويسئلون، ولجهلم لا يتحرجون ولا يتورعون عن الإفتاء، فإذا صار الأمر كذلك وفعل الجهال ذلك؛ فأفتوا بغير علم، وأفتوا برأيهم غير مستندين إلى كتاب أو سنة، وإنما هي آراؤهم الباطلة يحملون الناس عليها؛ وعندئذ يكون وعندئذ يكونون قد ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم.
هذا الحديث فيه أمور تحتاج إلى توضيح: قول الراوي -رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول"؛ "يقول" جملة حالية، أي: حال كونه. يقول عند الإمام أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة في حجة الوداع، فبينت رواية الإمام أحمد، ورواية الإمام الطبراني أن هذا الحديث قيل في حجة فبينت تاريخه، ومن هنا الزيادات في الحديث تأتي بالفوائد.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء)) انتزاعًا بالنصب مفعول مطلق بقبض العلماء، أي: بموت