فَقَالَ: إِنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْزَلْتَنِي مَنْزِلَةَ الْعَالِمِ، وَمَا كُنْتُ لأُنْزِلَ نَفْسِي مَنْزِلَةَ الْخَادِمِ.
فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ، وَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأََلَةٍ فِي السِّيرَةِ، فَأَجَابَ عَنْهَا، فَأَمَرَ لَهُ بِحَمْلِ عَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: فَرِّقْهَا فِي أَصْحَابِكَ.
قَالَ: فَخرج مَسْرُورا وَالْمَال بَين يَدَيْهِ فانحر مَنْ كَانَ شَمِتَ بِهِ وَحَسَدَهُ.
قَالَ أَبُو هِلالٍ: وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَنَالَ مِثْلَ هَذِهِ الْمنزلَة بالفتور والهوينا فقد غر نَفسه.
وَذَكَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ الطَّائِيَّ قَصَدَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بَعْضَ رُؤَسَاءِ الشَّامِ، فأنشده قصيدة من درج، فانسر بهَا الرَّئِيسُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى التَّرْجَمَةِ فَإِذَا حَبِيبُ بن ابْن أَوْسٍ الطَّائِيُّ، فَقَالَ لَهُ: أَقَلُّ مَا يَنْبَغِي لِلشَّاعِرِ أَنْ يَعْرِفَ شُعَرَاءَ قَبِيلَتِهِ، فَكَمْ مِنْ طَيِّءٍ شَاعِرٍ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا شَاعِرًا مَشْهُورًا ومغمورا وأنشدهم قَصَائِدَ وَمَقَاطِعَ، ثُمَّ أَنْشَدَ بَعْضَهَا مَقْلُوبًا، فَعَجِبَ الرَّئِيسُ مِنْ حِفْظِهِ وَذَكَائِهِ وَقَدَمِهِ، وَقَالَ: كَيْفَ تمكنت من حفظ مَا أرى فَقَالَ: أفادنيه الطّلب وحفظنيه السهر، فَعظم فِي عينه وَأَجَازَهُ. قَالَ أَبُو هِلالٍ: وَنِعْمَ الْمُعَلِّمُ الدَّرْسُ، وَنِعْمَ الْمعِين السهر، وَنعم الدَّلِيل السراج، وَنعم الْقَائِد اللَّيْل، وَنعم الْمُذكر الْكِتَابُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ: (فَلْيَجْتَهِدْ رَجُلٌ فِي الْعِلْمِ يَطْلُبهُ ... كي لَا يكون شَبيه الشَّاء وَالْبَقر) وَالْجهل شَبيه بِالْعَمَى، وَهُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ، وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: لِمَ لَا تُعَاتِبُونَ الْجُهَّال