قُلْتُ: قَدْ وَقَفْتُ عَلَى تَأْلِيفٍ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ اللُّغَوِيِّ صَاحِبِ " الْمُجْمَلِ "، فَذَكَرَ فِيهِ وَجُوهًا فِي تَفْضِيلِ هَذَا وَوُجُوهًا فِي تَفْضِيلِ هَذَا، فَمِمَّا ذَكَرَهُ فِي تَفْضِيلِ اللَّيْلِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِ سُورَةً مُسَمَّاةً " سُورَةَ اللَّيْلِ "، وَلَمْ يُنْزِلْ فِي النَّهَارِ سُورَةً تُسَمَّى سُورَةَ النَّهَارِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى النَّهَارِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} [القصص: 71] وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ قَبْلَ النَّهَارِ، وَأَنَّ لَيَالِيَ الشَّهْرِ سَابِقَةٌ عَلَى أَيَّامِهِ، وَأَنَّ فِي اللَّيْلِ لَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ مِثْلُهَا، وَأَنَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً، وَأَنَّ النَّهَارَ فِيهِ أَوْقَاتٌ تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، وَالصَّلَاةُ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَنَّ فِيهِ التَّهَجُّدَ وَالِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ لِتِلَاوَةِ الذَّكْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] وَقَالَ: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا} [الزمر: 9] وَأَنَّ الْإِسْرَاءَ وَقَعَ بِاللَّيْلِ، قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81] وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: فِي اللَّيْلِ تَنْقَطِعُ الْأَشْغَالُ، وَتُجَمُّ الْأَذْهَانُ، وَيَصِحُّ النَّظَرُ، وَتُؤَلَّفُ الْحِكَمُ، وَتَدِرُّ الْخَوَاطِرُ، وَيَتَّسِعُ مَجَالُ الْقَلْبِ، وَمُؤَلِّفُو الْكِتَابِ يَخْتَارُونَهُ عَلَى النَّهَارِ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ بِالنَّهَارِ طَائِرٌ، وَبِاللَّيْلِ سَاكِنٌ، وَكَذَلِكَ مُدَبِّرُو الْمُلْكِ. وَقَدِيمًا كَانَ يُقَالُ: اللَّيْلُ نَهَارُ الْأَرِيبِ، وَقَالَ الْقَائِلُ:
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ اللَّيْلِ جُنَّةَ فَاتِكٍ ... إِذَا هَمَّ أَمْضَى غَنِيمَةَ نَاسِكٍ
وَعَارَضَهُ صَاحِبُ النَّهَارِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ ذِكْرَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 3 - 4] وَبِأَنَّ التَّقْدِيمَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، فَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالْجِنَّ عَلَى الْإِنْسِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَصَمَّ عَلَى الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24] وَالْمُتَأَخِّرُ مِمَّا ذُكِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ قَطْعًا، وَبِأَنَّ النُّورَ قَبْلَ الظُّلْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وَبِأَنَّ النَّاسَ وَالشُّعَرَاءَ مَا زَالُوا يَذُمُّونَ اللَّيْلَ وَيَشْكُونَهُ