ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنَ» ". وَالْحَدِيثُ أَصْلُهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ: وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَفِي اللَّبَنِ: وَزِدْنَا مِنْهُ- يُعْطِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ اللَّبَنِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فَقَدْ كُنْتُ سُئِلْتُ عَنْهُ قَدِيمًا، وَأَجَبْتُ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّفْضِيلُ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ. وَذُكِرَ عَنْ حَافِظِ الْعَصْرِ أبي الفضل بن حجر أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ أَفْضَلُ مِيَاهِ الدُّنْيَا، وَمَاءَ الْكَوْثَرِ أَفْضَلُ مِيَاهِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا الْجَوَابُ كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى تَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ تَفْضِيلُ مَاءِ زَمْزَمَ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسِلَ صَدْرُهُ بِهِ لَمَّا شَقَّهُ جِبْرِيلُ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ تَفْضِيلُ الْكَوْثَرِ ; لِأَنَّهُ عَطِيَّةُ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَمْزَمُ عَطِيَّةُ اللَّهِ لِإِسْمَاعِيلَ ; وَلِأَنَّ الْكَوْثَرَ مُصَرَّحٌ بِذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ مُسْنَدًا إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمْزَمَ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمَا سَوَاءٌ لَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَيُقَالُ: مَا دَامَ الرَّجُلُ صَحِيحًا فَالْخَوْفُ أَفْضَلُ، وَمَا دَامَ مَرِيضًا فَالرَّجَاءُ أَفْضَلُ، وَيُقَالُ: الْخَوْفُ لِلْعَاصِي أَفْضَلُ، وَالرَّجَاءُ لِلْمُطِيعِ أَفْضَلُ، وَيُقَالُ: الْخَوْفُ قَبْلَ الذَّنْبِ أَفْضَلُ، وَالرَّجَاءُ بَعْدَ الذَّنْبِ أَفْضَلُ ; لِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ; أَحَدُهَا: إِلَى فَضْلِهِ وَالْخَوْفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَالْفَضْلُ أَكْرَمُ مِنَ الْعَدْلِ. وَالثَّانِي: الرَّجَاءُ إِلَى الْوَعْدِ، وَالْوَعْدُ مِنْ بَحْرِ الرَّحْمَةِ، وَالْخَوْفُ مِنَ الْوَعِيدِ، وَالْوَعِيدُ مِنْ بَحْرِ الْغَضَبِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ. الثَّالِثُ: الرَّجَاءُ بِالطَّاعَةِ وَالْخَوْفُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الطَّاعَةِ مَا يَعْلُو عَلَى الْمَعَاصِي كَالتَّوْحِيدِ. وَالرَّابِعُ: الرَّجَاءُ بِالرَّحْمَةِ وَالْخَوْفُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالذُّنُوبُ لَهَا نِهَايَةٌ، وَالرَّحْمَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَيُقَالُ: الْخَوْفُ أَفْضَلُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ وَعَدَ بِالْخَوْفِ جَنَّتَيْنِ، وَلَمْ يَعِدْ بِالرَّجَاءِ إِلَّا جَنَّةً وَاحِدَةً، وَأَيْضًا الْخَوْفُ يَمْنَعُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَرْكُ الذُّنُوبِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ. وَيُقَالُ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْخَوْفِ فَهُوَ حَرُورِيٌّ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالرَّجَاءِ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: فَفِي " كَشْفِ الْأَسْرَارِ " قَالَ النيسابوري: اللَّيْلُ أَفْضَلُ ; لِوُجُوهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّيْلَ رَاحَةٌ، وَالرَّاحَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالنَّهَارَ تَعَبٌ، وَالتَّعَبُ مِنَ النَّارِ، وَأَيْضًا فَاللَّيْلُ حَظُّ الْفِرَاشِ، وَالنَّهَارُ حَظُّ اللِّبَاسِ ; وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَلَيْسَ فِي الْأَيَّامِ مِثْلُهَا. وَقِيلَ: النَّهَارُ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ نُورٌ، وَأَيْضًا لَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، وَأَيْضًا النَّهَارُ لِلْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ.