الْحَدِيثِ: ( «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» ) وَأَنْتَ لَا تَعْتَبِرُ الْقُلَّتَيْنِ، وَصَحَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ الْمُدَبَّرَ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِبَيْعِ الْمُدَبَّرِ، فَكَيْفَ خَالَفْتَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ؟ فَيَقُولُ: قَامَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لَهَا تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا. فَأَقُولُ لَهُ: وَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَادِلُ حَنْبَلِيَّ الْمَذْهَبِ أَقُولُ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: ( «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ) وَثَبَتَ فِيهِمَا ( «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ» ) وَأَنْتَ تَقُولُ بِصِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ، فَكَيْفَ خَالَفْتَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ؟ فَيَقُولُ: قَامَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُعَارِضَةٌ لَهُ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ لَهُ: وَهَذَا مِثْلُهُ.
هَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَرَّبُ بِهِ لِأَذْهَانِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَادِلُ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ وَلَا فِقْهَ عِنْدَهُ يُقَالُ لَهُ: قَدْ قَالَتِ الْأَقْدَمُونَ: الْمُحَدِّثُ بِلَا فِقْهٍ كَعَطَّارٍ غَيْرِ طَبِيبٍ، فَالْأَدْوِيَةُ حَاصِلَةٌ فِي دُكَّانِهِ وَلَا يَدْرِي لِمَاذَا تَصْلُحُ، وَالْفَقِيهُ بِلَا حَدِيثٍ كَطَبِيبٍ لَيْسَ بِعَطَّارٍ يَعْرِفُ مَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَدْوِيَةُ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدِي الْحَدِيثُ وَالْفِقْهُ وَالْأُصُولُ وَسَائِرُ الْآلَاتِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَنَا أَعْرِفُ كَيْفَ أَتَكَلَّمُ وَكَيْفَ أَقُولُ وَكَيْفَ أَسْتَدِلُّ وَكَيْفَ أُرَجِّحُ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَخِي - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - فَلَا يَصْلُحُ لَكَ ذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي الْفِقْهَ وَلَا الْأُصُولَ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْآلَاتِ، وَالْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَلَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّكَلُّمِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الْعُلُومَ، فَاقْتَصِرْ عَلَى مَا آتَاكَ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ حَدِيثٍ تَقُولُ: وَرَدَ أَوْ لَمْ يَرِدْ، وَصَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ وَحَسَّنُوهُ وَضَعَّفُوهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكَ فِي الْإِفْتَاءِ سِوَى هَذَا الْقَدْرِ، وَخَلِّ مَا عَدَا ذَلِكَ لِأَهْلِهِ.
لَا تَحْسَبُ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا
وَثَمَّ أَمْرٌ آخَرُ أُخَاطِبُ بِهِ كُلَّ ذِي مَذْهَبٍ مِنْ مُقَلِّدِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَذَلِكَ أَنْ مسلما رَوَى فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ كَانَ يُجْعَلُ وَاحِدَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عمر» ، فَأَقُولُ لِكُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ: هَلْ تَقُولُ أَنْتَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، تُطَلَّقُ وَاحِدَةً فَقَطْ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَا، أَقُولُ لَهُ: فَكَيْفَ تُخَالِفُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ؟ فَإِنْ قَالَ: لِمَا عَارَضَهُ، أَقُولُ لَهُ: فَاجْعَلْ هَذَا مِثْلَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يُقَالُ بِمُقْتَضَاهُ لِوُجُودِ الْمَعَارِضِ لَهُ.
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى آمَنَا بِهِ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ مَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمُ ابن شاهين وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ،