وَيَقُولُ: إِنِّي حَرَّمْتُ النَّارَ عَلَى صُلْبٍ أَنْزَلَكَ، وَبَطْنٍ حَمَلَكَ، وَحِجْرٍ كَفَلَكَ» ) وَيَكُونُ مِنْ بَابِ مُعَارَضَةِ الْوَاهِي بِالْوَاهِي، إِلَّا أَنَّا لَا نَرَى ذَلِكَ وَلَا نَحْتَجُّ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا السَّبَبَ مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ أُخْرَى مِنْ جِهَةِ الْأُصُولِ وَالْبَلَاغَةِ وَأَسْرَارِ الْبَيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِنْ بَعْدِهَا كُلَّهَا فِي الْيَهُودِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] وَلِهَذَا خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِمِثْلِ مَا صُدِّرَتْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] الْآيَتَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَصْحَابِ الْجَحِيمِ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْأَثَرِ: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والفريابي، وَابْنُ جَرِيرٍ، وابن المنذر فِي تَفَاسِيرِهِمْ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَلَاثُ عَشْرَةَ آيَةً فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ آيَةً إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَأَكْثَرُ مَا خُوطِبَ فِيهَا الْيَهُودُ، وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْجَحِيمَ اسْمٌ لِمَا عَظُمَ مِنَ النَّارِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَالْآثَارِ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي مالك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] قَالَ: الْجَحِيمُ مَا عَظُمَ مِنَ النَّارِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابن المنذر عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] قَالَ: أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظَى، ثُمَّ الْحُطُمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ، قَالَ: وَالْجَحِيمُ فِيهَا أبو جهل، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، فَاللَّائِقُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مَنْ عَظُمَ كُفْرُهُ وَاشْتَدَّ وِزْرُهُ وَعَانَدَ عِنْدَ الدَّعْوَةِ وَبَدَّلَ وَحَرَّفَ وَجَحَدَ بَعْدَ عِلْمٍ، لَا مَنْ هُوَ بِمَظِنَّةِ التَّخْفِيفِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَحَّ فِي أبي طالب أَنَّهُ أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِرِّهِ بِهِ مَعَ إِدْارَكِهِ الدَّعْوَةَ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الْإِجَابَةِ وَطُولِ عُمُرِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِأَبَوَيْهِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَشَدُّ مِنْهُ قُرْبًا وَآكَدُ حُبًّا وَأَبْسَطُ عُذْرًا وَأَقْصَرُ عُمُرًا، فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمَا أَنَّهُمَا فِي طَبَقَةِ الْجَحِيمِ، وَأَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِمَا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ، هَذَا لَا يَفْهَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ سَلِيمٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّ جِبْرِيلَ ضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «لَا تَسْتَغْفِرْ لِمَنْ مَاتَ مُشْرِكًا» ، فَإِنَّ الْبَزَّارَ أَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَأَمَّا نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ فَضَعِيفٌ أَيْضًا، وَالثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أبي طالب، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: ( «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ