عَنْكَ» ) وَأَمَّا حَدِيثُ: ( «أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا» ) فَأَخْرَجَهُ الحاكم فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَشَأْنُ الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَسَاهُلِهِ فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِالتَّصْحِيحِ، ثُمَّ إِنَّ الذهبي فِي مُخْتَصَرِ الْمُسْتَدْرَكِ لَمَّا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَقَلَ قَوْلَ الحاكم: صَحِيحٌ، قَالَ عَقِبَهُ: قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، فعثمان بن عمير ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَبَيَّنَ الذهبي ضَعْفَ الْحَدِيثِ وَحَلَفَ عَلَيْهِ يَمِينًا شَرْعِيًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ كَانَ لِلنَّظَرِ فِي غَيْرِهَا مَجَالٌ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: مِمَّا يُنْتَصَرُ بِهِ لِهَذَا الْمَسْلَكِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَانُوا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ تَحَنَّفُوا وَتَدَيَّنُوا بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَرَكُوا الشِّرْكَ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ أَبَوَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ: تَسْمِيَةُ مَنْ رَفَضَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، زيد بن عمرو بن نفيل، عبيد الله بن جحش، عثمان بن الحويرث، ورقة بن نوفل، رباب بن البراء، أسعد أبو كريب الحميري، قس بن ساعدة الإيادي، أبو قيس بن صرمة، انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَحَنُّفِ زيد بن عمرو، وورقة، وقس، وَقَدْ رَوَى ابن إسحاق وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ تَعْلِيقًا عَنْ أسماء بنت أبي بكر قَالَتْ: (لَقَدْ رَأَيْتُ زيد بن عمرو بن نفيل مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا أَصْبَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ) قُلْتُ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِذْ ذَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ الدَّعْوَةَ وَيَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا عَلَى وَجْهِهَا.
وَأَخْرَجَ أبو نعيم فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: رَغِبْتُ عَنْ آلِهَةِ قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرَأَيْتُ أَنَّهَا الْبَاطِلُ، يَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وأبو نعيم كِلَاهُمَا فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ شَيْخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ: أَنَّ عمير بن حبيب الجهني تَرَكَ الشِّرْكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَصَلَّى لِلَّهِ، وَعَاشَ حَتَّى أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ.
وَقَالَ إِمَامُ الْأَشَاعِرَةِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: وأبو بكر مَا زَالَ بِعَيْنِ الرِّضَا مِنْهُ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الأشعري يَقُولُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِحَالَةٍ غَيْرِ مَغْضُوبٍ فِيهَا عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَصِيرُ مِنْ خُلَاصَةِ الْأَبْرَارِ، قَالَ الشيخ تقي الدين السبكي: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَاسْتَوَى الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي قَالَهَا الأشعري فِي حَقِّ الصِّدِّيقِ لَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَالَةُ كُفْرٍ بِاللَّهِ، فَلَعَلَّ حَالَهُ قَبْلَ الْبَعْثِ كَحَالِ زيد