الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: جُعِلَتْ فِتْنَةُ الْقَبْرِ تَكْرِمَةً لِلْمُؤْمِنِ، وَإِظْهَارًا لِإِيمَانِهِ، وَتَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ فَعَلَ سَيِّئَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا تُدْفَعُ عَنْهُ بِعَشَرَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَتُوبَ فَيُتَابَ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَغْفِرَ فَيُغْفَرَ لَهُ، أَوْ يَعْمَلَ حَسَنَاتٍ فَتَمْحُوَهَا، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، أَوْ يُبْتَلَى فِي الدُّنْيَا بِمَصَائِبَ فَتُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ فِي الْبَرْزَخِ بِالضَّغْطَةِ وَالْفِتْنَةِ، فَتُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ يَدْعُو لَهُ إِخْوَانُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، أَوْ يَهْدُونَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ مَا يَنْفَعُهُ، أَوْ يُبْتَلَى فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بِأَهْوَالٍ تُكَفِّرُ عَنْهُ، أَوْ تُدْرِكُهُ شَفَاعَةُ نَبِيِّهِ، أَوْ رَحْمَةُ رَبِّهِ، انْتَهَى.
الرَّابِعُ: قَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ الْقَصْرِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ": الْمَعْنَى فِي سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ الْفَتَّانَيْنِ فِي الْقَبْرِ أَنَّ الْخَلْقَ فِي الْتِزَامِ الشَّرَائِعِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الِاخْتِبَارِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمِنَ النَّظَرِ فِيهِ وَفِي أَمْرِ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَ عَرْضِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْعُقُولِ، فَيَعْتَقِدُ كُلُّ أَحَدٍ فِي قَلْبِهِ وَسِرِّهِ عَلَى حَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ حِينَ تَعْتَرِضُهُمْ أَفْكَارُ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، فَمِنْ بَيْنِ مُنْكِرٍ جَاحِدٍ أَوْ شَاكٍّ مُرْتَابٍ، وَمِنْ بَيْنِ مُؤْمِنٍ مُصَدِّقٍ وَمُوقِنٍ مُطْمَئِنٍّ ثَابِتٍ، هَذِهِ حَالُ الْكُلِّ مُدَّةَ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِ مَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْوَاجِبَاتُ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، فَلَمَّا حُصِّلَ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ فُتِنُوا بِالْجَزَاءِ عَنْ عَقَائِدِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمَلَكَانِ لِلْمَسْئُولِ: «قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا» ، «وَلَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَعَلَى الشَّكِّ حَيِيتَ وَعَلَيْهِ مِتَّ» ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَسْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْتَحُ لِكُلِّ أَحَدٍ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَابٌ إِلَى النَّارِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَقْعَدِهِ مِنْهُمَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفَتَحَتْ لِلْعُقُولِ أَبْوَابَ دِينِ الْإِسْلَامِ حِينَ عَرَضَتْهُ عَلَى الْعُقُولِ، وَحِينَ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَمَرَتْ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَأَمَرَتْ بِالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَذَكَرَتْ لِلْعُقُولِ أَنَّ مَنِ الْتَزَمَ الطَّاعَاتِ جُوزِيَ بِالْجَنَّةِ وَدَخَلَهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ وَأَبَى وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَدَخَلَ النَّارَ، فَمِنْ بَيْنِ دَاخِلٍ مَفْتُوحٍ لَهُ بِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَمِنْ بَيْنِ خَارِجٍ نَافِرٍ. فَيُقَالُ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ الْوَقْتَ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ النَّارِ أَوِ الْجَنَّةِ كَمَا صَنَعَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَافْهَمْ.
الْخَامِسُ: قَالَ الباجي فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ ": لَيْسَ الِاخْتِبَارُ فِي الْقَبْرِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِظْهَارُ الْعَمَلِ وَإِعْلَامٌ بِالْمَآلِ وَالْعَاقِبَةِ، كَاخْتِبَارِ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالتَّكْلِيفَ قَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، قَالَ مالك: مَنْ مَاتَ فَقَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ لِمَعْنَى