القرطبي: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي رَوَى مَجِيءَ مَلَكٍ لَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا يَأْتِيهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ لَمْ يُقَلْ فِيهَا: وَلَا يُفْتَنُ سِوَى يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا قِيلَ: وَلَا يَأْتِيَانِ بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ إِنَّهُمْ يُفْتَنُونَ سَبْعًا.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: إِنْ قِيلَ إِعَادَةُ السُّؤَالِ بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ هَلْ هُوَ تَأْسِيسٌ أَوْ تَأْكِيدٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا سُؤَالٌ وَاحِدٌ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ، وَجَوَابٌ وَاحِدٌ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: إِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي التَّكْرِيرِ سَبْعًا، وَهَلَّا اكْتُفِيَ بِالْأَوَّلِ؟
فَالْجَوَابُ: أَوَّلًا أَنْ نَقُولَ هَلْ ظَنَنْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ عِلْمُ مَا عِنْدَهُ حَتَّى إِذَا أَجَابَ أَوَّلَ مَرَّةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ؟ مَعَاذَ اللَّهِ، لَا يَظُنُّ ذَلِكَ عَاقِلٌ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ قَبْلَ السُّؤَالِ، بَلْ وَعَلِمَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ أَيْضًا؛ وَلِذَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَهُ إِذَا أَجَابَ: «نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا» . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنَ السُّؤَالِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: إِظْهَارُ شَرَفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَكَانَتِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ وَمَزِيَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ إِنَّمَا جُعِلَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَخُصُوصِيَّةَ شَرَفٍ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ عَنْهُ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ يُعْطَ ذَلِكَ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ، «فَبِي تُفْتَنُونَ وَعَنِّي تُسْأَلُونَ» . . . الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أحمد وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عائشة بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: سُؤَالُ الْقُبُورِ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُمَمَ قَبْلَهَا كَانَتِ الرُّسُلُ تَأْتِيهِمْ بِالرِّسَالَةِ، فَإِذَا أَبَوْا كَفَّتِ الرُّسُلُ وَاعْتَزَلُوهُمْ وَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَأُعْطِيَ السَّيْفَ حَتَّى يَدْخُلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ لِمَهَابَةِ السَّيْفِ، ثُمَّ يَرْسُخُ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، فَمِنْ هَذَا ظَهَرَ النِّفَاقُ، فَكَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الْإِيمَانَ، فَكَانُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سِتْرٍ، فَلَمَّا مَاتُوا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ فَتَّانَىِ الْقَبْرِ؛ لِيُسْتَخْرَجَ سِرُّهُمْ بِالسُّؤَالِ، وَلِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
الثَّانِي: قَالَ الحليمي مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: لَعَلَّ الْمَعْنَى فِي السُّؤَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ حُوِّلَ مِنْ ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيَجِيءُ هُنَاكَ وَيُوقَفُ وَيُسْأَلُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ عَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ بِنَفْسِهِ وَرُوحِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَهُوَ نَظِيرُ إِيقَافِهِ فِي الْمَحْشَرِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ وَاسْتِعْرَاضِ عَمَلِهِ، حَتَّى إِذَا وُجِدَ مِنَ الْأَبْرَارِ أُجِيزَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، انْتَهَى كَلَامُ الحليمي.