قال الشافعي رضي الله عنه: (وَلَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَجِّزَهُ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَاكِمُ وَلَا يُعَجِّزَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ مَالِهِ فَإِنْ وَجَدَهُ أَدَّى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ عَجَّزَهُ وَأُخِذَ السَّيِّدُ بِنَفَقَتِهِ وَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا، كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّعْجِيزِ فَكَّ الْعَجْزَ عَنْهُ وَرَدَّ عَلَى سَيِّدِهِ نَفَقَتَهَ مَعَ كِتَابَتِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا جُنَّ الْمُكَاتَبُ لَمْ تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لُزُومَهَا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ بُطْلَانِهَا بِجُنُونِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالرَّهْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهَا مَعَ الْمُعَاوَضَةِ عِتْقًا بِصِفَةٍ لَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ، فَكَذَلِكَ بِالْمُعَاوَضَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الرَّهْنُ فَهَلَّا بَطَلَ بِالْجُنُونِ وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الرَّهْنُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ يُنَافِي الْمَوْتَ، وَلَا يُنَافِي الْجُنُونَ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْجُنُونِ، وَالرَّهْنُ لَا يُنَافِي الْمَوْتَ وَلَا الْجُنُونَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ وَلَا بِالْجُنُونِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعِتْقُ بِالصِّفَةِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ كَانَتِ الْكِتَابَةُ بِمَثَابَتِهِ فِي بُطْلَانِهَا بِالْمَوْتِ دُونَ الْجُنُونِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ، وَإِنْ بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ فَلِلسَّيِّدِ إِذَا حَلَّ نَجْمُ الْكِتَابَةِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ، فَيُثْبِتُ عِنْدَهُ عَقْدَ الْكِتَابَةِ وَحُلُولَ النَّجْمِ فِيهَا، ثُمَّ يُفَتِّشُ الْحَاكِمُ بَعْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا دَفَعَهُ إِلَى السَّيِّدِ، وَعَتَقَ بِهِ إِنْ كَانَ مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُكَاتَبِ، وَلَوْ غَابَ لَمْ يُفَتِّشْ عَنْ ماله فهلا كان فِي الْجُنُونِ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بالجنون مولى عليه فكان للحكام الولي عليه أن يصرف ماله فِي مَصَالِحِهِ، وَأَصْلَحُ الْأُمُورِ تَحَرِّي عِتْقِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَائِبُ، لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ وَمَصَالِحُهُ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ لِلْمُكَاتَبِ مَالًا أَحْلَفَ الْحَاكِمُ سَيِّدَهُ إنَّهُ مَا قَبَضَ مَالَ النَّجْمِ مِنْهُ، وَإِنَّهُ لَبَاقٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى مَجْنُونٍ فَكَانَ كَالْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، فَإِذَا حَلَفَ السَّيِّدُ حَكَمَ لِسَيِّدِهِ بِتَعْجِيزِهِ وَإِعَادَتِهِ عَبْدًا قِنًّا، وَأَخَذَهُ بِنَفَقَتِهِ، فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِ وَظَهَرَ لَهُ مَالٌ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِتَقَدُّمِهِ فِي مِلْكِهِ أَبْطَلَ الْحَاكِمُ تَعْجِيزَهُ، وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ كَمَا يُبْطِلُ مَا نَفَذَ مِنْ أَحْكَامِهِ بِالِاجْتِهَادِ إِذَا خَالَفَ نَصًّا، وَحَكَمَ