قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَنْظَرَ السَّيِّدُ مُكَاتَبَهُ عِنْدَ عَجْزِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِنْظَارِهِ، وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلْمُكَاتَبِ عِنْدَ رُجُوعِ السَّيِّدِ فِي إِنْظَارِهِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ كِتَابَتَهُ إِذَا عَلِمَ الْمُكَاتَبُ بِرُجُوعِهِ فِي الْإِنْظَارِ، وَلَمْ يُبَادِرْ بِالْأَدَاءِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا مُسَافِرًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَمْنُوعًا مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُهُ فِيهِ مِنَ السَّفَرِ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُعَجِّلَ الْفَسْخَ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ لِإِعْلَامِهِ لِتَعَدِّيهِ بِالسَّفَرِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِنْظَارَ بِعُدْوَانِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَفَرًا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ إِمَّا لِأَنَّهُ عَنْ إِذْنِ السَّيِّدُ، وَإِمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ قَبْلَ إِعْلَامِ الْمُكَاتَبِ بِرُجُوعِهِ فِي الْإِنْظَارِ، فَيُثْبِتُ السَّيِّدُ عِنْدَ حَاكِمِ بَلَدِهِ عَقْدَ الْكِتَابَةِ، وَحُلُولَ النَّجْمِ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِهِ، وَيُخْبِرُهُ بِرُجُوعِهِ فِي إِنْظَارِهِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ إنَّهُ مَا قَبَضَ مِنْ مَالِ ذَلِكَ النَّجْمِ، وَإِنَّهُ لِبَاقٍ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ كَتَبَ حِينَئِذٍ إِلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُكَاتَبُ بِرُجُوعِ سَيِّدِهِ إفي إِنْظَارِهِ، فَإِذَا عَرَفَ الْمُكَاتَبُ ذَلِكَ مِنْ حَاكِمِ بَلَدِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ سَافَرَ إِلَيْهِ أَوْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ فِيهِ، فَعَجَّلَ دَفْعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنِ السَّيِّدُ حَاضِرًا وَعَتَقَ، وَإِنْ أَخَّرَ الْمَالَ عَنْ وَكِيلِهِ فِي الْحَالِ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ، وَيَنُوبُ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي الْفَسْخِ إِذَا سَأَلَهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَعَ حُضُورِ الْوَكِيلِ كَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ حَاضِرًا، لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْحَالَيْنِ مُمْكِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ وَكِيلٌ فِي بَلَدِ الْمُكَاتَبِ أُنْظِرَ الْمُكَاتَبُ قَدْرَ الْمَسَافَةِ مِنْ مِسِيرِهِ إِلَى سَيِّدِهِ عَلَى حَسَبِ الْمَكِنَةِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَسَخَ السَّيِّدُ حِينَئِذٍ الْكِتَابَةَ، أَوْ نَابَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي الْفَسْخِ إِذَا فَوَّضَهُ إِلَيْهِ، فَلَوْ سَأَلَ، السَّيِّدُ حَاكِمَ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُكَاتَبُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ مَالَ كِتَابَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَبْضُ، وَكَانَ فِيهِ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ الْحَاكِمُ بِالْتِزَامِهِ هُوَ الْحُكْمُ دُونَ الْقَبْضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لِمَوْلًى عَلَيْهِ، فَتَلْزَمُهُ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي قَبْضِهِ، لِثُبُوتِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِهِ.
فَأَمَّا إِذَا حَلَّ النَّجْمُ، وَالْمُكَاتَبُ مُسَافِرٌ قَدْ أَخَّرَ الْأَدَاءَ عَنْ سَيِّدِهِ، فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ وَلَا يُلْزَمَ إِعْلَامَ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ حَالِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْإِنْظَارِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ عَلِمَ بِحُلُولِ النَّجْمِ فِي سَفَرِهِ، وَأَنَّ السَّيِّدَ قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ فَسْخَ كِتَابَتِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعْلَامُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا أَنْظَرَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ إِعْلَامُهُ.