الحاوي الكبير (صفحة 6223)

وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ غَيْرِهِ عَنِ الشَّهَادَةِ مُوجِبًا لِفِسْقِهِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا مُفْضٍ إِلَى كَتْمِ الشَّهَادَةِ خَوْفًا أَنْ يُحُدُّوا إِنْ لَمْ يكملوا فتكتم حقوق الله تعالى ولا تؤدى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ وَكَمُلَتْ فِي الْعَدَالَةِ أَوْصَافُهُمْ.

(فَصْلٌ)

فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ عَدَدُهُمْ وَنَقَصَتْ أَوْصَافُهُمْ فشهد عليه بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ فَكَانُوا عَبِيدًا، أَوْ فُسَّاقًا، أَوْ أَعْدَاءً لَا تُقْبَلُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُمْ، وَلَمْ يُجْلَدْ بِهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى رَدِّهِمْ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أحدها: أنهما سواء، وأن كل ما منع مِنَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ نُقْصَانِ عَدَدٍ أَوْ نُقْصَانِ صِفَةٍ هَلْ يَصِيرُ الشُّهُودُ بِهِ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لم توجب الْحُكْمَ بِهَا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلَفَانِ فَلَا يصيروا بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ مَعَ كَمَالِ الْعَدَدِ قَذَفَةً، وَلَا يُحَدُّونَ وَإِنْ صَارُوا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الصِّفَةِ قَذَفَةً وَحُدُّوا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ نَصٌّ، وَنُقْصَانُ الصِّفَةِ اجْتِهَادٌ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الرَّدُّ بِنُقْصَانِ الصِّفَةِ أمراً ظاهراً كَالرِّقِّ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ جَرَى مَجْرَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ هل يَصِيرُونَ قَذَفَةً يُحَدُّونَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصِّفَةِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ كَالْفِسْقِ الْخَفِيِّ وَالْعَدَاوَةِ الْخَفِيَّةِ كَانَ مُخَالِفًا لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلَمْ يَصِيرُوا بِهِ قَذَفَةً وَلَمْ يُحَدُّوا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ كَالنَّصِّ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ قبل سماعها والخفي منه اجتهاد ترد بها الشَّهَادَةُ بَعْدَ سَمَاعِهَا فَافْتَرَقَا.

(فَصْلٌ)

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَنُقْصَانِ الصِّفَةِ فَرْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكْمُلَ عَدَدُهُمْ وَتَكْمُلَ صِفَةُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ كَأَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَفِيهِمْ عَبْدٌ، أَوْ فَاسِقٌ وَبَاقِيهِمْ عُدُولٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ لَا يُوجِبُ الحد فهو أولى، وإن قيل: إنه موجب الْحَدَّ فَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى جَمِيعِهِمْ لِقُوَّةِ الشهادة بكمال العدد وبكمال صفة الأكثرين.

والوجه الثاني: أنه يحد جميعهم لرد شهادتهم.

والوجه الثالث: يُحَدُّ مَنْ نَقَصَتْ صِفَتُهُ بِالرِّقِّ وَالْفِسْقِ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ كَمُلَتْ صِفَتُهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015