الحاوي الكبير (صفحة 6222)

والاعتراض الثاني: قَالَ: لِمَ عَرَّضَ عُمَرُ بِمَا أَسْقَطَ بِهِ الحد عن المغيرة وهو واحد وواجب به الحد على الشهود وهم ثلاثة؟ فقيل عنه ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ قَتْلٍ وَجَلْدٍ كَانَ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ بِالْجَلْدِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ الْجَلْدِ بِالْقَتْلِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ الشُّهُودُ مَا نُدِبُوا إِلَيْهِ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَاتِ، وَخَالَفُوا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ) كَانُوا بِالتَّغْلِيظِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَالثَّالِثِ: أَنَّ رَجْمَ الْمُغِيرَةِ لَمْ يَجِبْ إِلَّا أَنْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ، وَجَلْدُهُمْ قَدْ وَجَبَ مَا لَمْ تَتِمَّ شَهَادَتُهُمْ، فَكَانَ إِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ ما وجب.

الاعتراض الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ، وَهَذِهِ الصفة لَا تَخْلُو مِنْ جَرْحِ بَعْضِهِمْ وَفِسْقِهِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَقُوا فِي الشَّهَادَةِ فَالْمُغِيرَةُ زَانٍ، وَالزِّنَا فِسْقٌ، وَإِنْ كَذَبُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَالْقَذْفُ فِسْقٌ، قيل: هذه الصفة لَا تَمْنَعُ مِنْ عَدَالَةِ جَمِيعِهِمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْ قَدْحٍ يَعُودُ عَلَى بَعْضِهِمْ، أَمَّا الْمُغِيرَةُ وَهُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَكَحَهَا سِرًّا فلم يذكروه لعمر؛ لأنه كان لا يرى نكاح السر ويحد فيه وكان يتبسم عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فقال: لأن أَعْجَبُ مِمَّا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ بَعْدَ كَمَالِ شهادتهم، فقيل: وَمَا تَفْعَلُ قَالَ: أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا زَوْجَتِي.

وأما الشهود فلأنهم شاهدوا بِظَاهِرِ مَا شَاهَدُوا فَسَلِمَ جَمَاعَتُهُمْ مِنْ جَرْحٍ وَتَفْسِيقٍ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِهِمْ فِي الدِّينِ وَأَثْبَتُوا أَحَادِيثَهُمْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنْ كَانَ أَبُو بَكَرَةَ إِذَا أُتِيَ بِكِتَابٍ لَمْ يَشْهَدْ فِيهِ وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ فَسَّقُونِي، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ، فَدَلَّتْ هذه القصة من عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ إِذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا أَغْلَظُ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي الْقَذْفِ: زَنَيْتَ وَلَا يَصِفُ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ زَنَيْتَ وَيَصِفُ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ لَا يُوجِبُ حَدَّ الْمَقْذُوفِ، والشهادة توجب حد المشهود عليه، ولما كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَغْلَظَ مِنَ الْقَذْفِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَتْ بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا لَمْ تَتِمَّ أَوْلَى.

وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إلى تسرع الناس إلى القذف إذا أرادوه أَنْ يُخْرِجُوهُ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يُحَدُّوا، وَفِي حَدِّهِمْ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ عَنْ تَوَقِّي الْقَذْفِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ، وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَا يُحَدُّونَ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَذَفَةِ وَالشُّهُودِ فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمْ فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مَعَرَّةٌ وَالشَّهَادَةُ إِقَامَةُ حق، ولذلك إذا أكثر الْقَذَفَةُ حُدُّوا، وَلَوْ كَثُرَ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدُّوا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ إِذَا قَلُّوا كَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ إِذَا كَثُرُوا، وَلِأَنَّ حكم كل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015