تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إِنْ تَحَاكَمَ إِلَيْنَا ذِمِّيَّانِ مِنْ دِينَيْنِ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ دِينِ صَاحِبِهِ فَلَزِمَ الْعُدُولُ بِهِمَا إِلَى دِينِ الْحَقِّ الْإِسْلَامِ
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ عِنْدَنَا مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَتَرَافَعَ إِلَيْنَا مِنْهُمْ زَوْجَانِ فِي طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إِيلَاءٍ حُكِمَ بَيْنَهُمَا فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] فَإِنْ طَلَّقَ صَحَّ طَلَاقُهُ وَأَلْزَمَهُ حكمه، وإن ظاهر فيأتي حكم ظاهره، وَإِنَّ الْأَصَحَّ إِيلَاؤُهُ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَمَالِكٌ: رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى في آية الإيلاء {فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ، وَالْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ لَا يَسْتَحِقَّانِ مَعَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ بِهِ الإيلاء لا إِلَى الْمُسْلِمِ.
وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إِيلَاؤُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ إِيلَاؤُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ إِيلَاءُ الْمُسْلِمِ صَحَّ بِهِ إِيلَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ كَالْإِيلَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَأَمَّا آيَةُ الْإِيلَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمُومَ نَصِّهَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ دُونَ الْكَافِرِ لِمَا تَضَمَّنَهُ آخِرُهَا من قوله {فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] ثُمَّ قِيسَ مَنْ آلَى مِنَ الْكُفَّارِ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ طَلَاقُ الذِّمِّيَّاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عُمُومَ نَصِّهَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ، فَعَلَى هَذَا لِأَصْحَابِنَا في قوله في آخرها: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة: 226] .
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ والكفار، وقوله تعالى {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} خَاصٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَامًّا وَآخِرُهَا خَاصًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَهَا عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلَهُ {فَإِنَّ اللَّهَ غفور