- دار الكدر والأحزان:

ومع هذه الحقيقة العجيبة للدنيا، فإنها فوق ذلك لا تصفو لأحد، فهي مليئة بالأكدار، فالأفراح تلاحقها الأحزان، والعافية يطاردها السقم، والقوة يتبعها الضعف .. لايجتمع فيها شمل الأحبة، فإن اجتمعوا فلابد لهم من فراق ..

فإن قلت: ولماذا خلقها الله عز وجل بهذا الهوان وتلك الأكدار؟

جاءت الإجابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى) (?).

فلو كانت للدنيا قيمة معتبرة، ولو خلت من أكدارها وكانت صافية، لأحبها الناس وتعلقوا بها، فيؤدي ذلك إلى تنافسهم وتصارعهم عليها، وزيادة حرصهم على البقاء فيها، ومن ثم تزداد كراهيتهم للموت، وتقل رغبتهم في الآخرة ونعيمها، فتكسد تجارتها، وتُترك أعمالها ..

معنى ذلك أن كون الدنيا بهذه الحقارة، وتلك الأكدار نعمة عظيمة من الله عز وجل على عباده .. فلو كانت الدنيا صافية لما شمّر أحد للآخرة، ومع ذلك فلقد استطاع الشيطان أن يخدع الكثيرين والكثيرين من الناس وينسيهم هذه الحقائق، ويزين لهم الدنيا، ويبهرجها أمامهم حتى يركنوا إليها ويتشبثوا بها، ويتصارعوا من أجلها، فينسوا المهمة التي خلقوا من أجلها ..

- وسائل المعرفة:

وكما قيل سابقًا، فلكي تكون هذه الحقائق دافعًا لتغيير تعامل المرء مع دنياه، وزهد فيها، لابد وأن تتمكن من يقينه، وتؤثر في إيمانه ... من هنا كان من الضروري وجود وسائل قوية ومستمرة تقوم بهذه المهمة.

هذه الوسائل تنطلق - كبقية الوسائل السابقة - من محورين: محور وجداني يذكر دومًا بحقيقة الدنيا ويمزج الفكر بالعاطفة ويستثير المشاعر ويولد الطاقة الدافعة للعمل، ومحور عملي يؤكد على المعنى الوجداني مما يرسخ مدلوله في يقين الإنسان فتنطلق تصوراته واهتماماته ومن ثم أفعاله بسهولة وتلقائية تعبر عن زهده في الدنيا.

أما المحور النظري القادر على التذكير الدائم بحقيقة الدنيا فهو الكتاب الخالد الذي أنزله الله عز وجل رحمة وهدى للناس: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه:113).

والملاحظ في القرآن أن موضوع الدنيا وحقيقتها يحتل مساحة كبيرة فيه من خلال التعريف بها، وذم من يحرص عليها، وعرض قصص السابقين الذين اغتروا بها وندموا أشد الندم على ذلك بعد موتهم.

ومع القرآن تأتي السنة كذلك وما تحتويه من أحاديث كثيرة تتحدث عن حقيقة الدنيا، وتدعو إلى الزهد فيها.

وبالنسبة للمحور العملي فهو الاعتبار بأحداث الدنيا: فالناظر المتفحص لأحداث الحياة وما يحدث للناس يرى الدنيا على حقيقتها، وأنها دار أحزان وهموم وغموم وكدر وفراق.

فأصحاب القوة بالأمس هم ضعفاء اليوم، والجاه والسلطان لم يدُوما لأحد قط.

لا يكاد يخلو بيت من مريض، ومن النادر أن ترى شخصًا بلا هموم، ولا غموم ..

الأحبة يفترقون .. الابن يفارق أباه ويتزوج، والأب يفارق أبناءه ويموت، و ...

هذه المشاهدات عندما يراها العبد بعين الاعتبار فستتجلى أمامه دومًا حقيقة الدنيا.

ومما يرسخ هذا المعنى في النفس: النظر إلى المزابل والجيف كل فترة وربط ذلك بحقيقة الدنيا وهوانها على الله، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

فعن الحسن البصري قال: " مر عمر بن الخطاب على مزبلة فاحتبس عندها فكأنما شق على أصحابه، وتأذوا بها، فقال لهم: هذه دنياكم التي تحرصون عليها (?) ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015