الثانية: كثرة قراءة القرآن وتدبر معانيه: فالملاحظ أن الحديث عن الآخرة ويوم الحساب ونعيم الجنة، وعذاب القبر، وطبيعة الوجود في الدنيا، وحث الناس على التسابق إلى الجنة .. كل هذا يحتل مساحة كبيرة من القرآن، ولا تكاد تخلو سورة منها، ليؤدي ذلك إلى اليقين بتلك الأمور: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ? لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (التكاثر:5، 6).

فإذا أيقن الإنسان بهذه الحقائق فسينعكس ذلك على تصرفاته وطريقة تعامله مع مفردات الحياة، فتراه مجاهدًا، عابدًا، مشمرًا لفعل الخيرات، محسنًا في تعاملاته مع الآخرين ..

الثالثة: الصحبة الصالحة، فمع الاعتبار بمن حولنا وتذكر الموت، ومع المداومة على تدبر القرآن، يأتي التذكير بين المؤمنين لهذه الحقائق كوسيلة تعين العبد على دوام يقظته وانتباهه وحسن استعداده للموت كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف:28).

إن وجود المرء في بيئة طيبة، وصحبة صالحة من شأنه أن يستثير همته للسباق نحو الجنان .. انظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحرصه على أن يسبق أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الإنفاق .. يقول رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت رسول الله بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟) فقلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟)، قال: "أبقيت لهم الله ورسوله"، قلت: لا أسابقك لشيء أبدًا" (?).

هذه الوسائل وغيرها تزيد الإيمان بالآخرة في القلب وتدفع للمساعرة والتشمير للجنة.

كيف نزهد في الدنيا؟!

مما لا شك فيه أن معرفة العبد للدنيا على حقيقتها له دور كبير في زهده وانصراف رغبته عنها، وزيادة رغبته فيما عند الله عز وجل.

والذي يقرأ الآيات والأحاديث التي تصف الدنيا يعجب من شدة هوانها على الله عز وجل .. فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي هذا الحديث .. (إن الله تعالى جعل ما يخرج من بني آدم مثلًا للدنيا) (?).

يقول المستورد بن شداد: " كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها) قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: (فو الذي نفس محمد بيده الدنيا أهون على الله من هذه على أهلها) " (?).

لقد خلق الله عز وجل الدنيا ولم يجعل لها قدرًا، ولم يثمنها بأدنى شيء كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء) (?).

إذن فالدنيا حقيرة، لا قيمة لها .. كالجيفة النتنة التي يعافها الناس ويتحاشون المرور بجوارها، فإن اضطروا لذلك تراهم وقد أسرعوا خطاهم، وأداروا وجوههم عنها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015