إن طريق أصحاب الدعوات الصادقة - طريق التمكين - طريق واحد لا ثاني له، سار عليه الرسل وأتباعهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).
يقول الصلابي: "الإبتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطًا وثيقًا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختيار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف، فقد شاء الله تعالى أن يبتلى المؤمنين، ويختبرهم، ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء المعنى على لسان الإمام الشافعي - رحمه الله - حين سأله رجل، أيهما أفضل للمرء ـ أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: " لا يُمكَّن حتى يُبتلى"، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا، وإبراهيم، وموسى، ومحمدًا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة" (?).
إذن فسنة الإبتلاء من لوازم طريق التمكين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31) ... ولا يوجد خيار آخر للتعامل معها غير الصبر والثبات والاعتصام بالله عز وجل ... {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:250).
عندما نتأمل سيرة الجيل الأول نجد أنهم قد تعرضوا لفتن وابتلاءات عظيمة كان من أشدها ما تعرض له المسلمون في الأوائل في مكة فصبروا وتحملوا وثبتوا على عهدهم مع الله ...
انظر ما حدث لبلال - رضي الله عنه - وما فعله معه عدو الله أمية بن خلف إذ كان يُخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول - وهو في ذلك البلاء -:
" أحد، أحد" (?).
ويقول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء إذ بعمَّار وأبيه وأمه يُعذبون في الشمس ليرتدوا عن الإسلام، فقال أبو عمّار: " يا رسول الله، الدهر كله هكذا؟ " فقال: (صبرًا آل ياسر. اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت) (?).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم يراهم يُعذَّبون فكان يأمرهم بالصبر لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن طريق الدعوات لابد وأن يصاحبه إيذاء ومضايقات وعقبات، ولا بديل عن الصبر والتحمل واجتياز تلك العقبات حتى يأذن الله بالفرج ...
تأمل معي ما قال صلى الله عليه وسلم عندما جاءه خباب بن الأرت رضي الله عنه عند الكعبة يشكو إليه شدة ما لاقوه من الأذى، ويطلب منه أن يدعو الله لهم، فأحمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد كان من قبلكم ليُمشط بأمشاط من حديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه!! وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) (?).