تأمل معي ربعيّ بن عامر رضي الله عنه وهو أحد عامة جيش المسلمين الذين ذهبوا لفتح بلاد فارس وهو يخاطب رستم قائد الفرس، فحين سأله رستم: " ما جاء بكم؟ " قال: " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله، وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى" .. (?).
- وضوح الغاية:
أما غايتهم - رضوان الله عليهم - فقد كانت واضحة أمامهم تمام الوضوح، وتمثل في رضا الله وبلوغ جنته ... لقد اقتربت الجنة أمام أعينهم، فازداد شوقهم إليها، ومن ثَّم العمل على دخولها ..
تأمل معي ما حدث لحرام بن ملحان رضي الله عنه وهو أحد القراء الذين استشهدوا في بئر معونة ... لقد ذهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه وأمر رجلًا فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حِرَام: " الله أكبر، فزت ورب الكعبة".
وفي بدر وقف صلى الله عليه وسلم يُحرض أصحابه على القتال فقال لهم: (والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة)، وقال وهو يحضهم على القتال: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، وحينئذ قال عمير بن الحمام: " بخ بخ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قول بخ بخ؟) قال: " لا، والله يارسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها "، قال: (فإنك من أهلها)، فأخرج ثمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: " لئن أنا حييت آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل".
وكذلك سأله عوف بن الحارث بن العفراء، فقال: " يا رسول الله ما يضحك الرب من بعده "! قال: (غمسه يده في العدو حاسرًا)، فنزع درعًا كان عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (?).
وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعقر فرسه في مؤتة ويقاتل الروم حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردة شرابها
والروم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
علىَّ إذا لاقيتها ضرابها (?)
(جيل صابر)
من الصفات الأساسية للجيل الموعود بالنصر والتمكين أنه جيل صابر .. يتحمل ما يلاقيه من ضغوط، ويجتاز ما يقابله من عقبات، ويثبت أمام المحن والبلايا التي يتعرض لها في طريقه لتحقيق هدفه المنشود.
لقد علم أبناء هذا الجيل بأن الطريق الذي يوصلهم إلى هدفهم ليس مفروشًا بالورود والرياحين، بل طريق صعب، مرير، طويل ... ملئ بالأشواك والعقبات ... يقف على جانبيه شياطين الإنس والجن يعملون جاهدين على إيقاف المسيرة، والحيلولة دون وصولهم إلى غايتهم التي نذروا حياتهم من أجلها في رضا مولاهم والفوز بجنته.
علم أبناء هذا الجيل طبيعة الطريق فوطنوا أنفسهم على ذلك، واعتصموا بربهم، وعاهدوه على المُضى قُدمًا في هذا الطريق، فإما أن يموتوا فيه مجاهدين في سبيل مولاهم، صابرين، ثابتين على عهدهم، أو يصلوا إلى هدفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب:23).