فجاء بها إليه الرسول، فنظر، فإذا هي دنانير، فجعل يسترجع! وتقول له امرأته: ما شأنك؟ أمات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: فما شأنك؟ قال: الدنيا أتتني! الفتنة دخلت عليَّ! قال: فاصنع فيها ما شئت. قال: عندك عَوْن؟ قالت: نعم. فأخذ ذريعة له، فصر دنانير فيها صُررًا، ثم جعلها في مِخلاة، ثم اعترض بها جيشًا من جيوش المسلمين، فأمضاها كلها (?).
من سمات الجيل الموعود أنه جيل مجاهد في سبيل الله، يبذل جهده ووسعه وطاقته من أجل رضا ربه، ينطبق عليه قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (المائدة:54).
لقد وضحت الرؤية لهذا الجيل، ورُفع له علم الخلافة وأستاذية العالم، فشمَّر للوصول إليه، وجعل حياته وإمكاناته وفقًا لتنفيذ هذا الهدف، ولا ينتظر من ذلك إلا رضا مولاه عنه.
جيل لا يبخل بأي جهد يبذله للوصول إلى هدفه، ولِمَ لا وهو يعلم أن إقامة هذا الدين لن تكون إلا بجهد البشر في البداية ليأتي التأييد الإلهي تبعًا لوجود هذا الجهد كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7).
من هنا يعلم أبناء هذا الجيل أن أي جهد يبذلونه - مهما كان ضئيلًا - فإنه يمثل خطوة مهمة في بناء المشروع الإسلامي، لذلك فهم يصلون الليل بالنهار من أجل الوصول إلى أهدافهم دون الإخلال بواجباتهم تجاه أنفسهم أو أهليهم.
لقد أوقف هذا الجيل حياته من أجل هدفه، وجعل كل شيء آخر على هامش تفكيره .. أجلَّ الكثير من متع نفسه من أجل مشروعه ومشروع الأمة العظيم، يدفعه لذلك الحُرقة الشديدة التي تملأ قلبه على أحوال أمته وما يحدث لها من ذل وهوان لم يسبق له مثيل.
تراه دومًا على استعداد تام للتضحية بأي شيء من أجل رضا الله وتحكيم شرعه ورفع رايته.
على استعداد لأن يبذل ماله ووقته وجهده وراحته ...
وعلى استعداد كذلك للتضحية بالمنصب والعقود المغرية التي من شأنها أن تُحسن وضعه المالي.
هيأ نفسه وبيته للبذل وتحمل خشونة العيش وكذلك المضايقات والإيذاءات التي من المتوقع أن يتعرض لها.
وتتصاعد التضحية لتصل إلى درجة التضحية بالنفس طمعًا في رضا ربه والفوز بمكانة الشهداء عنده.
لقد أوقف الصحابة حياتهم من أجل الله وجاهدوا في سبيله وتحملوا خشونة العيش والجوع والأذى رغبة فيما عنده سبحانه وتعالى.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم، لحسبت أنما ريحنا ريح الضأن، إنما لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان التمر والماء" (?).
وعن محمد بن سيرين قال: " كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأتي عليه ثلاثة أيام لا يجد شيئًا يأكله فيأخذ الجلدة فيشويها فيأكلها فإذا لم يجد شيئًا أخذ حجرًا فشد صلبه" (?).
لقد كان أبناء الجيل الأول يعلم بوضوح هدفه في الدنيا، وأن الله عز وجل قد اختارهم لينشروا دينه، ويقوموا بالشهادة على الناس، ويسعوا لإخراجهم من الظلمات إلى النور، لذلك انتشروا في الأرض يدعون الخلق إلى الله، ويجاهدون في سبيله .. لم يركنوا إلى الدنيا، ولم ينقطعوا للعبادة، أو مجاورة الحرم .. لم يقيموا في مدينة نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع ما في ذلك من فضل عظيم، لأنهم علموا أن الله عز وجل يريد منهم الدعوة والجهاد وتعبيد الأرض له سبحانه.