وسأله بعض الحنفيَّة عن عِدَّة مَنْ لقي أبو حنيفة رحمه اللَّه مِنَ الصَّحابة رضي اللَّه عنهم، فقال: أنسٌ فقط، قال السائل: فقلت له: إنَّ علماءنا بلغوا بهم سبعةً أو أربعةَ عشر، فقال: مَنْ يقدِرُ ينازعُكم وأنتم أصحابُ السَّيف والرُّمح والخُوذة؟! والذي أعرفه ما قلتُه لك.
واتفق أنَّ الفاضل عزَّ الدين عبد العزيز بن محمد الوفائي الميقاتي شَهِدَ عندَه في هلالِ رمضان، فقال له: أعن رؤيةٍ أم عَن حسابٍ؟ فقال: عَنْ رُؤية، فأمضى شهادته.
والتمس منه الشَّيخ محمد بن صالح الصَّالح الشهير الحضورَ في عَقدِ ابنته، وكانَ في رمضان سنة وفاته، والمتولي للقضاء إذ ذاك كان غيره، وعُدَّ ذلك في عليّ مقامه، فلما حضر: قال: مِنْ يعقد، فقيل له: أبوها، فتوقَّف في ذلك ورعًا واحتياطًا، لكونه شِبْهَ المجذوبِ، فقال بعض مَنْ حضر مِنَ العلماء: بل هو عاقل، فقال للقائل: إن كان عاقلًا، فأنتَ العاقِدُ.
ومن ورعه أنه كان يضم قُلامَةَ الأقلام، ثمَّ يجعلها في بَطْنِ دواته إلى أن تُرمى، لكونه يكتب بها الحديثَ والعلمَ، ويقول على سبيل المماجنة: مَنْ داسَ عليها دخل السجنَ!
ومن هنا يُعلم بطلان ما بلغني أنه نُسب إليه في الكتب، وكيف يليق أن يَفُوه مَنْ له أدنى مُسكة بشيءٍ مِنْ ذلك، وقد روينا في جزء مِنْ حديث أبي رفاعة عمارة بن وثيمة، أنه قال: قال لي أبو الربيع سليمان بن أبي طيبة: نهانا أشهبُ عَنْ تخطِّي الكتُب التي فيها حديثُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وكذا مِنْ ورعه ووفور ديانته أنه أفرز قبل موته ما عنده مِنْ كتب الأوقاف التي لها مقرَّة، وكذا ما لا مقرَّةَ لها، وأشار بعَودِ كَل ذي مقرٍّ إلى موضعه، وما عدا ذلك، فيُقسَم بين طلبته، فما وفَوا له بذلك، وهذا أوَّلُ شيء أساؤوا التَّصرفَ فيه بعد وفاته، لكنه رحمه اللَّه اجتهد في عَودِها بعد مماته بحسب الإمكان. وكان يرى أن بقاءها عنده غيرُ ممتنع؛ لانتفاعه والمسلمين بها، بل كثيرًا ما كان يعيرها لمن يلتمسها منه، ولقد قال الظاهر جقمق: واللَّه إنه كان جديرًا بإبقاء كتب الأوقاف عنده، وأنا ممَّنِ استعارَ منِّي