فيه, فيرجع آخر ذلك النَّهار وهو مسرورٌ لما يرى مِنْ ثبات ولده وقوَّة قلبه وشجاعته وانتظام كلامه ومهارته في ذلك. وأظن أنَّه لم يُمكَّن مِنَ المجيء إلى أهله في عيد الفطر، بل لو لم يقصِدْهُ أبوه للمكان الذي هو فيه، ما تمكن من الاجتماع به. كل هذا ولم يظفروا منه بما كان أملهم فيه ببركة والده.
وعمل حينئذٍ في رجب سنة إحدى وخمسين جزءًا سماه "ردع المجرم عن سبِّ المسلم"، افتتحه بقوله: "أما بعد حمد للَّه الذي عظّم قدْرَ مَنْ آمنَ به وأسلم، والصلاة والسلام على نبيه الذي شرع لأمَّته سُنن الدّين، وبيَّن لهم سَنَن المهتدين وعلَّم، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا يتلقَّون أمره بالقَبُول وسلَّم. فهذه أربعون حديثًا منتقاة مِنْ كتب الصحاح والسُّنن في تعظيم المسلم، والزجر عن سبّه وظنِّ السُّوء به، وتعمُّد ظُلمه في سِلْمِه وحربه، كتبتُها عِظَةً لمن بسط لسانه ويده في المسلمين، مع قلَّة علمه واعوجاجه، وتعرّض لسخط ربّه، واغترَّ بحلمه واستدراجه، انتهاكًا لأعراضهم، واستكثارًا مما يصير إليه من جواهرهم وأعراضهم، عسى اللَّه أن يرزقه التوبة والإنابة، فيقتدي بالسلف الصالح من الصحابة وأتباع الصحابة، واللَّه يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء".
قلت: ولمَّا أبرز لنا صاحب الترجمة هذا الجزء، قلت له: خطر لي أن أسوق أحاديثه بأسانيد للمشار إليه، وأتوجَّه لقراءتها بين يديه، فقال: لا يفيد هذا المقصود، سامحه اللَّه وإيانا.
وكانت هذه الكائنة سببًا لزهد شيخنا بعدُ في المنصب، وكتب لبعض جماعته في أثناء هذه المدة في ضمن رسالة: "والعبد الآن في أقصى غايات الراحة، وكلَّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها اللَّه". انتهى.
وضُبط عنه حينئذٍ أنه قال عن السَّفطي: واللَّه إنه لا يتم سنة. فكان كذلك، بل لم يلبث أن امتحن السفطي بما هو أبلغ في أنواع المحن بالنسبة لمثله، فإنه أدخل حبس أُولي الجرائم، إلى غير ذلك مِنَ العظائم، حسبما بينته في ترجمته من ذيلي على "قضاة مصر".
وكذا قوصِصَ ابنُ الشَّطنوفي في ذلك، فإنه أُقعد بمنزله مدَّةً طويلة