المشاعر - وإن جعلت طلائع الحيوان للاقتناء والاتقاء فأن نوع الإنسان قد فضل جملة الحيوان بما شرف به من قوة العقل حتى أكرم بمكانها ورشح للخلافة في الأرض على التعمير وإقامة السياسة فيها ولهذا أذلت له طوعا وكرها فانقادت مسخرة لمصالحه ليلا ونهارا - قال الله تعالى (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) ولولا هذا الأنعام على الإنسان لما قاوم أدونها وهو مختلف في القوة عرى عما لها من آيات الدفاع والنزاع صادق في قوله المحكي عنه سبحانه (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) ثم لما أكرم بتلك العطية وأهل التكليف من بين البرية ليتأيد بكسبه بعد المنية إذ الرغائب بالمتاعب ونيل البر بالأنفاق من الخبائب أفرد من حواسه اثنتان هما السمع والبصر فجعلتا له مراقي في المحسوسات إلى المعقولات - أما البصر فللاعتبار بما يشاهد من آثار الحكمة في المخلوقات والاستدلال على الصانع من المصنوعات - قال الله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال سبحانه وتعالى (الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خائسا وهو حسير) وقال تعالى (وكائن من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) واما السمع فليسمع به كلام الله بأوامره ونواهيه ويعتصم فيها بحبله فيصل إلى جواره ويبلغ حق مأمنه وليس ذلك بخفي عن خاص او عام أعشى بني ربيعة:
كأن فؤادي بين جنبي عالم ... بما ابصرت عيني وسمعت أذني
فأنه أبان حصول العلم بهاتين الحاستين وأضافه إلى الفؤاد دون الدماغ فأنه الرأي المشهور بين الكافة قال الله تعال (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) وقال أبو تمام:
ومما قالت الحكماء طرّا ... لسان المرء من خدم الفؤاد
وقال جميل بن معمر العذري:
إذا كنا بمنزلة للهو ... نخاف السمع فيه والعيونا
لأنها آلتا الرقيب فيتأمل من الخلل ويتسمع حتى يقف على المغيب عنه - فليس يعرف قدر النعمة في شيء الا عند فقدها فلذلك لا يعرف فضيلة هذه الحاسة إلا بعدمها في للأخرس وقياسه غلى الاكمه بعدم البصر حتى يتحقق قول الله تعالى (افأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يُبصرون) غلى قوله (أفانت تُسمع الصم ولو كانوا لايعقلون) وكقوله في التأنيب كإعدام النهار والليل - وأما الحواس الباقية فأنها بالبدن أليق منها بالنفس وبحيوانيتها أشبه منها بالإنسانية وان كان الإنسان تصرف فيها أفكاره واستنباطاته حتى بلغ بمحسوساتها أيضاً إلى أقصى غاياتها -
الاستئناس يقع بالتجانس حتى قيل (إن الشكل إلى الشكل ينزع والطير مع ألافها تقع) ألا ترى الابكم ان سائر الناس عنده بكم لأنه لا يتمكن من مخاطباتهم الا بالإشارات والإيماء بالأعضاء إلى علامات تدل إلى الأرادات كيف يسكن غلى اخرس مثاه إذا وجده وكيف يقبل عليه بكله كمن وجد إنسانا بفهم لغته فيما بين قوم لا يفهمون لغته عنه - قال الله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها) وقال تعالى (ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) فإذا انضاف إلى ذلك أمن الشر فهو الغنيمة الباردة التي يتضاعف بها الأنس ويزول النفار وان حصل في البين انتفاع عائد على أحدهما أو كليهما فذلك اقصى الغايات في ائتلاق الأهواء المؤدي عند التكاثر إلى التعاون المفضي بهم إلى الاجتماع قرى ومدنا ودساكر -
ترويحة
الإنسان في جبلته مركب البدن من أمشاج متضادة لا تجتمع إلا بقهر قاهر والنفس في أكثر أحوالها تابعة لمزاج البدن فتتلون لذلك وتختلف أخلاقها ومعلوم أن المقهور على اجتماع دائم النزاع إلى إزالة القهر عنه بالافتراق وان وكد الضد هو مغالبة الضد الذي له وأحالته إلى ما عنده وإن كان سبب ما يلحق الحيوان من الآفات والأدواء التي تهتاج من داخله من المتضادات المطيفة به من خارج ثم ان الإنسان يعراه في ذاته ومسكنته بعدم آلاته مقصود بالبلايا من غيره دائم الحاجة إلى ما يقيه والاضطرار على ما يكفيه - قال: