زَعَمَ أَنَّهَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَأَوْطَأَنِي عَشْوَةَ الضَّلالَةِ، وَأَوْهَقَنِي فِي رِبْقَةِ الْفِتْنَة، وَأَمرَنِي أَنْ آخُذَ بِالظَّنَّةِ وَأَقْتُلَ عَلَى التُّهْمَةِ وَلا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَتَكْتُ بِأَمْرِهِ حرماتٍ حَكَمَ اللَّهُ بِصِيَانَتِهَا،، وَسَفَكْتُ دِمَاءً فَرَضَ اللَّهُ حَقْنَهَا، وَزَوَيْتُ الأَمْرَ عَنْ أَهْلِهِ، وَوَضَعْتُهُ مِنْهُ فِي غَيْر مَحَلِّهِ. فَإِنْ يَعْفُ اللَّهُ عَنِّي فبفضلٍ مِنْهُ، وَإِنْ يُعَاقِبْ فَبِمَا كَسَبَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلام لِلْعَبِيدِ.
ثُمَّ أَنْسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا حَتَّى جَاءَهُ حَتْفُ أَنْفِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمُتَقَدِّمِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ القَاضِي: قَول هَذَا الْقَائِل: " حَتَّى جَاءَهُ حتف أَنفه " يَنْبَغِي أَن يكونَ على قَول أهلِ الْعلم خطأ من قَائِله، وَذَلِكَ أنَّهم ذكرُوا أَنَّهُ يُقالُ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ وَمَات على فرَاشه: " مَاتَ حتف أَنفه، وَمَات حتف أنفيه ". وَذكر بعضُ الْمُتَقَدِّمين فِي علم اللُّغَة وَأهل الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ أَن هَذَا مِمَّا أَتَى فِي أَلْفَاظ مَعْدُودَة تكلَّم بِهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجدوا سَابِقًا إِلَيْهَا غَيره، وَأَبُو مُسلم على هَذَا لَمْ يَأْته حتفُ أَنفه، وإنَّما كَانَ بنسيانه عَظِيم جِنَايَته على نَفسه وتعرّضِهِ لما لَهَا قبلَ لَهُ بِهِ وطمعِهِ فِي الْأَمْن مِمَّا الخوفُ مِنْهُ أولى بِهِ، فَتوجه إِلَى جَبَّار من الْمُلُوك قد وتره، وأسرفَ فِي خطابه الَّذِي كَاتبه بِهِ، مَعَ مَا كَانَ مِنْهُ مِمَّا اضطغنه هَذَا الْملك عَلَيْهِ، واسترسلَ فِي إتْيَان حَضرته، وأضاعَ وَجه الحزم، واستأنسَ للخصم، وسلَّم عدَّته الَّتِي كَانَ يَحمي بِهَا نَفسه إِلَى من أَتَى عَلَيْهَا وفجعه بِهَا، فَقتله أفظعَ قتلة. فَكيف يُقالُ فِيهِ جَاءَهُ حتفُ أَنفه مَعَ مَا بيَّنَّاه من معنى هَذِه الْكَلِمَة واختصاصها بِما تختصُّ بِهِ. وبيِّن أَن قَوْلهم " مَاتَ حتف أَنفه " مخالفٌ فِي الْمَعْنى قَوْلهم " قتل " قَول السمأل بن عادياء:
وَمَا مَاتَ منا سيّدٌ حتفَ أَنفه ... وَلَا طلَّ منا حَيْثُ كَانَ قتيلُ
وَهَذَا فِي دلَالَته على الْفَصْل بِمنزلة قَول الْعَامَّة: " مَاتَ فلَان على فرَاشه " ليفصلوه مِمّن قتل. وَلَو كَانَ هَذَا القائلُ فِي هَذَا الْموضع قَالَ " حَتَّى جَاءَهُ حتفه أَو منيته، أَو حتف نَفسه "، أَوْ مَا أشبه هَذَا من الْأَلْفَاظ المنبئة عَن هَذَا الْمَعْنى، لوصل إِلَيْهِ بغيته وأصابَ فِي الْعبارَة عَمَّا قصد لَهُ، وَسلم من تخطئة أهل الْعلم لَهُ.
حدَّثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي طَاهِر قَالَ، حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَن أَبِيه قَالَ، حَدَّثَنِي الرّبيع بن الْفضل قَالَ: أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ المهديُّ بالتقدُّم إِلَى خَليفَة الْعَامِل على الْبَاب أَن يكتبَ إِلَى صَاحبه كتابا عَن نَفسه فِي إشخاص أبي سعيد مولى فائد، فَلم يَك شَيْء حَتَّى وافى أَبُو سعيد فَأدْخلهُ خليفةُ الْعَامِل عليَّ. فتوهّمت عِنْد نَظَرِي إِلَيْهِ أنّه قَاضِي الْحَرَمَيْنِ، فدخلتُ من سَاعَتِي إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمته، فَأمرنِي بِصَرْف النَّاس وإدخاله. قَالَ: فقرّب أميرُ الْمُؤمنِينَ مَجْلِسه وأحفى سؤالَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: غنني أَبَا سعيد: