إربًا إربًا. فَقَالَ الْمَنْصُور: الحمدُ لله الَّذِي أَرَانِي يَوْمك يَا عدوَّ الله. واستؤذنَ لعيسى بن مُوسَى. فلمّا دخلَ وَرَأى أَبَا مُسلم على تِلْكَ الْحَال، وَقد كَانَ يكلم الْمَنْصُور فِي أمره لعناية كَانَت مِنْهُ بِهِ، استرجعَ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: احْمَد اللَّه فَإنَّك إنّما هجمتَ على نعمةٍ وَلم تهجم على مُصِيبَة، فَفِي ذَلِكَ يَقُول أَبُو دلامة:
أَبَا مجرمٍ مَا غيَّر الله نعْمَة ... عَلَى عَبده حَتَّى يغيِّرها العَبْدُ
أَبَا مجرمٍ خوفتني الْقَتْل فانتحى ... عليكَ بِمَا خَوَّفْتِني الأسَدُ الوَرْدُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي بإسنادٍ لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت ذكره لخَبر الْمَنْصُور وقتلِهِ أَبَا مُسلم، ثمَّ حَدَّثَنَا أَيْضا بِإِسْنَاد هَذِه صفته قَالَ: خطبَ لَمنصورُ الناسَ بعد قتلِ أبي مُسلم فَقَالَ: أيُّها النَّاس لَا تَخرجوا من أُنْسِ لطاعةِ إِلَى وَحْشَة الْمعْصِيَة، وَلَا تَمشوا فِي ظلمَة الْبَاطِل بعد سعيكم فِي ضِيَاء لحقّ. إِن أَبَا مُسلم أحسن مبتديًا وأساءَ معقبًا. وأخذَ من النَّاس بِنَا أَكثر مِمَّا عطانا، ورجحَ قَبِيح بَاطِنه على حَسَنِ ظَاهره، وَعلمنَا من خَبِيث سَرِيرَته وَفَسَاد نيَّته مَا لَو علمه اللائمُ لنا فِيهِ لعذرنا فِي قَتله، وعنَّفنا فِي إمهاله. وَمَا زَالَ ينْقض بيعَته ويحفر ذمَّته حَتَّى أحلَّ الله لنا عُقُوبَته وأباحنا دَمه، فحكمنا فِيهِ حُكمَهُ فِي غَيره، ولَم يَمنعنا الحقُّ لَهُ من إِمْضَاء الحقِّ فِيهِ، وَمَا أحسن مَا قَالَ النَّابِغَة الذبياني فِي النُّعْمَان:
فَمن أطاعكَ فانفعْهُ بطاعتِه ... كَمَا أطاعكَ وادْلُلْهُ على الرَّشد
وَمن عصاكَ فعاقِبْهُ معاقبةً ... تَنْهَى الظلومَ وَلَا تَقْعُدْ على ضَمَد
ثُمَّ نزل:
حَدَّثَنَا الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوب بن جَعْفَر عَن أَبِيه قَالَ: خطبَ الناسَ المنصورُ بعد قتل أبي مُسلم فَقَالَ: أيُّها النَّاس لَا تنفّروا أطرافَ النعمةِ بقلة الشُّكْر فتحلَّ بكم النقمَة، وَلَا تسرُّوا غشَّ الْأَئِمَّة، فَإِن أحدا لَا يسرُّ مُنْكرا إِلَّا ظهر فِي فَلَتاتِ لِسَانه وصفحاتِ وَجهه وطوالِعِ نظره. وإنَّا لن نجهلَ حقوقكم مَا عَرَفْتُمْ حقَّنا، وَلَا ننسى الْإِحْسَان إِلَيْكُم مَا ذكرْتُمْ فضلنَا، وَمن نازعنا هَذَا القميعص أوطأنا أم رَأسه خبيء هَذَا الغمد. وَإِن أَبَا مُسلم بَايع لنا على أَنَّهُ من نكثَ بيعتنا وأضمر غشَّاً لنا فقد أباحنا دَمه، ثُمَّ نكث وغدر، وَكفر وفجر، فحكمنا عَلَيْهِ لأنفسنا حُكْمَهُ على غَيره.
كِتَابٌ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدثنِي عَليّ بن بْنُ الْمَغَانِيِّ قَالَ: كَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ حِينَ اسْتَوْحَشَ مِنْهُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ كُنْتُ اتَّخَذْتُ أَخَاكَ إِمَامًا، وَجَعَلْتُهُ عَلَى الدِّينِ دَلِيلا لِقَرَابَتِهِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي