الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا والعلائق والشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه وقد ذاق قلبه التألم والعذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القرب، ونعيم الإقبال على الله تعالى، وعافيته منها وانقطاعها عنه مدّة الصلاة، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة وفراغه منها ويقول: ليتها اتصلت بيوم اللقاء.
ويعلم أنه ينصرف من مناجاته مَن كلّ السعادة في مناجته، إلى مناجاة من كان الأذى والهم والغم والنكد في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا من قلبه حي معمور بذكر الله ومحبته، والأنس به، ومن هو عالم بما في مناجاة الخلق ورؤيتهم، ومخالطهم من الأذى والنكد، وضيق الصدر وظلمة القلب، وفوات الحسنات، واكتساب السيئات، وتشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز وجل.
ولما كان العبد بين أمرين من ربه عز وجل:
أحدهما: حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرًا وباطنًا، واقتضاؤه من القيام بعبودية حكمه، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدري.
والثاني: فعل، يفعله العبد عبودية لربه، وهو موجب حكمه الديني الأمري.
وكلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه، ولهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري، ولحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى، والشهوات، والمعاصي، ويقول: قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له: مسلم.
ولما اطمأن قلبه بذكر الله، وكلامه، ومحبته وعبوديته سكن إلىٍ ربه، وقرب منه، وقرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه ونال السعادة بإحسانه، وكان قيامه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا أي لا حياة له، ولا فلاح ولا سعادة إلا به.
ولما كان ما بُلي به من النفس الأمارة، والهوى المقتضي لمرادها والطباع المطالبة، والشيطان المغوي، يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك، أو نقصانه، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك، رادَّة عليه ما ذهب منه، مجددة له ما ذهب من عزمه وما فقده، وما أخلِقَ من إيمانه، وجعل بين كل صلاتين برزخًا من الزمان حكمة ورحمة، ليُجمّ نفسه، ويمحو بها ما يكتسبه من الدرن، وجعل صورتها على صورة أفعاله، خشوعًا وخضوعًا وانقيادًا وتسليمًا وأعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من العبودية، وجعل ثمرتها وروحها إقباله على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها ومحلها الدخول عليه تبارك وتعالى، والتزين للعرض عليه تذكيرًا بالعرض الأكبر عليه يوم القيامة.
وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس إليه، التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال وجميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.
ولهذا لم يقل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جعلت قرة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة، ولا في شيء من هذه الأعمال وإنما قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وتأمل قوله: "وجلت قرة عيني في الصلاة" ولم يقل: "بالصلاة"، إعلامًا منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه وتقر عين الخائف بدخول في محل أنسه وأمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أتم وأكمل متى قرت العين به قبل الدخول فيه، ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه